مقدمات الانهيار .. في صلب العملية السياسية |
ترددت كثيراً قبل ان افكر بالكتابة مجدداً، بعد الانهيار المدوي لمفاصل الحكومة (والدولة ايضا) اثر احداث العاشر من حزيران الماضي، التي هي نتيجة اعتيادية وكانت متوقعة لانتكاسة النظام السياسي فيما يعرف بالعراق الجديد، وكذلك المؤسسة العسكرية المشكلة بعد نيسان 2003 على انقاض جيش النظام السابق؛ لأن مسؤوليتنا كأفراد احرار توجب علينا ان نشارك في التقويم بدلا من ان نبكي على الاطلال، او ان ننكفىء في ظل عقد نفسية جديدة لن تبقي لمعالم التفاؤل اثراً. قررت الكتابة عن هذا الانهيار انطلاقا من حقيقة ان اغلبية سكان العراق بشتى تنوعهم مضطرون الى العيش على هذه الارض، اذ لن تتوفر الفرصة لشعب بأكمله للانتقال الى ارض اخرى لادامة حياته، برغم ان السياسيين اوصلوه الى حالة يتمنى فيها العيش في أي مكان عدا هذا العراق المبتلى. لقد شخصنا في مقالات لنا طيلة السنوات العشر الماضية، وتوقعنا بوادر الانهيار هذا، بل ترقبنا الاسوأ منه؛ ولست محتاجاً للتذكير بتلك المقالات، فما اكثرها، كما اننا لسنا بصدد اعادة التذكير بالتوقعات التي تحققت في الاسابيع الماضية على ارض الواقع، اذ اننا نسعى الآن الى البحث عن علاجات برغم انها، اي المعالجات خرجت من ايدي سكان العراق، الذين صوتوا مرة اخرى في الانتخابات العامة الاخيرة على اسس طائفية واثنية؛ فغربت عنا مظاهر الكفاءة والمواطنة والتحضر، ولن نعرف حتام!. و يظهر ان تاريخ هذه الارض يأبى الا ان يعاود دورته ومقدمات انهياره، كما يظهر اننا لم نستفد من العبر فنقع في الهاوية في كل مرة, ولا بأس هنا ان نذكر بما كتبه المفكر علي الوردي في مؤلفه القيم «دراسة في طبيعة المجتمع العراقي»، وتحدث فيه عما اسماه «الادواء التي كانت تنخر كيان الدولة» في العهد العثماني، التي ادت الى انهياره؛ وبمقارنتها بالاوضاع التي سبقت الانهيار الاخير لدينا، تتبين لنا حقيقة تلك الدورة الجهنمية التي وقع فيها العراقيون، وادت الى خراب بلدهم، والى هلاكهم؛ وسيتعاظم هذا الهلاك والفناء قطعاً، اذا لم نفلح في الاصلاح وانقاذ الوضع. يقول الوردي، ان «المدام ديولافوا» التي تجولت مع زوجها في العراق عام 1881 تحدثت عن مبلغ تفسخ الموظفين والضباط و استنتجت انها ستكون عامل انهيار للدولة العثمانية، فقالت في كتابها «رحلة مدام ديولافوا «، ان «احد رؤساء الدوائر في بغداد تعهد بتشييد بناية عامة فبناها مرتين اذ هو في المرة الاولى لم يضع لها اساساً ثم عمد الى احراقها فحصل من جراء ذلك على مبلغ كبير من المال»، وتضيف «ان قواد الجيش كثيراً ما يفتخرون بسفرات حربية غير حقيقية يقومون بها ليتقاضوا عنها المبالغ المقررة لها؛ وحدث مرة ان سار بعض الضباط الكبار بجيش لا وجود له وبعد قليل اخبروا الباب العالي ان الجيش قد ابيد عن بكرة ابيه.. وهم انما فعلوا ذلك لتغطية ما كادوا يتعرضون له من فضيحة بيع اسلحة كثيرة والتصرف بمرتبات الجنود»، مردفة، ان «المناصب و الوظائف الكبيرة كانت تعرض بما يشبه المزايدة حيث تمنح لمن يقدم رشوة اكبر» وتستدرك «لا ننكر وجود بعض الاتقياء الصالحين من موظفي الدولة آنذاك ولكن اولئك كانوا قليلين جداً ولعلهم يعدون نشازاً بين زملائهم». ورأت ديولافوا، وعلي الوردي، في تلك الافعال، وغيرها عوامل تفسخ وانهيار الامبراطورية العثمانية. كتب علي الوردي دراسته تلك عن طبيعة المجتمع العراقي، في عام 1965، وكان كمن يحذر من المقبل من الايام، وقال بصريح العبارة ان «الشعب العراقي منشق على نفسه وفيه من الصراع القبلي والطائفي والقومي اكثر مما في أي شعب عربي آخر ـ باستثناء لبنان ـ «، بحسب تعبيره، واشترط كعلاج تطبيق النظام الديمقراطي، رابطاً ذلك بانتشار التعليم والتمدن و بما اسماه «تعويد الشعب العراقي على الحياة الديمقراطية»، موضحاً، «اذا بقينا نتظاهر بالديمقراطية قولا ولا نمارسها فعلا فسوف نظل كما كنا يسطو بعضنا على بعض الى ما لانهاية!»، مشدداً على ان «الشعب العراقي لابد له ان يتطور في تفكيره كما تطورت الشعوب الاوروبية قبله». اضطررنا لهذا الاقتباس الطويل؛ لإلقاء الضوء على تلك الدورة الجهنمية من العنف والخراب التي تعصف بالعراق، و يظهر ان ليس من السهولة بمكان ان تضع اوزارها، وان يركن الناس الى السلام والاستقرار؛ اذ ما اشبه اليوم بالامس، وان كان الحاضر اشد مرارة وهولا و دفعاً الى اليأس. ان مقدمات الاخفاق في الحياة العراقية التي اعقبت اسقاط النظام المباد، التي اوصلتنا الى الكارثة الاخيرة، كثيرة والناس عرفتها وخبرتها اكثر منا، واكتوت بنارها طيلة السنوات العشر، ولن نحيط بها في هذا المقال القصير. ولكننا نقول، اننا اخفقنا بامتياز في اقامة مجتمع مبني على اسس العدالة والانسانية، ولقد اضعنا الفرصة التي توفرت لنا اثر انهيار النظام الدكتاتوري السابق، فلم نفلح الا في خلق العداوات والبغضاء بين ابناء المجتمع؛ فامتدت جذور الكراهية والحقد بين المحلات، وفي المؤسسات، واصبح امراً اعتياديا ان يخاف الفرد من جاره، بل تمددت عوامل البغضاء الى الاسرة الواحدة، والى النوع الانساني، ولو كنا فعلنا الصحيح لتجنبنا مزيداً من الدماء والخسارات واطمأن الناس على حياتهم ومستقبلهم وافتخروا ببلادهم. ان مجتمعات عدة في العالم بنت اسسا راسخة لحياتها، و برغم تنوع اعراقها واديانها وطوائفها، الا ان العامل المشترك الذي وحدها هو تحقق شروط المساواة والعدالة والانسانية في بنائها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، الى الحد الذي يدفع شخصاً افريقياً او اسيوياً هاجر الى اميركا مثلا، الى الافتخار بالقول انه اميركي، اما نحن ففعلنا العكس تماما، وعملنا على تشظي المجتمع الى الحد الذي اصبح كل انسان عراقي يشعر ان الوضع السياسي الجديد قد خذله ولم يلب طموحاته، وفقد الناس روح المواطنة والوحدة الانسانية، وما عادوا يتحمسون للدفاع عن البلد. واقتيد الناس سياسياً واجتماعياً وحتى اقتصادياً على اسس غير سليمة، واقحم العرق والدين والطائفة في الوضع السياسي بقوة؛ فتكرس الانقسام في كل شيء؛ وبرغم انني شخصياً لم اثق منذ وقت مبكر بمجمل العملية السياسية التي بنيت على اسس خاطئة من التحشيد الطائفي والاثني، وانتجت دستوراً اعرجَ ونظاماً انتخابياً بائساً، فانني ازعم ان الفرصة لم تزل مؤاتية لانقاذ الناس، اذا توفر القصد اصلا، واذا سارع سياسيون حقيقيون الى التحرك المنطقي، المنسجم في الاقل مع ما يوفره علم السياسة، واذا جرت تلبية مطالب الناس والاستجابة لحقوقهم وتحقيق المساواة والعدالة بينهم والارتقاء بالخدمات وغيرها، واننا بذلك سنكون مطمئنين على مستقبل البلد؛ اما الاكتفاء بالحديث عن المؤامرات والتهيؤ للمعارك، فلن يجديَ نفعا ولن ينقذناً من ورطتنا ولن يعيد لنا آمالنا التي ضاعت واشرفنا بها على الموت والفناء. |