الازمة السياسية العراقية الحالية: رؤيا اقتصادية |
تأتي اهمية المقال من ضرورة تحليل عوامل الازمة بشكل موضوعي وبغياب مثل هذا التحليل سنصل الى حلول عقيمة لاتخدم احد بل تعمق من حدة الصراع السياسي. حاليا يدور الحديث في وسائل الاعلام المحلية والاجنبية حول ضرورة تشكيل حكومة عراقية اكثر شمولية لشرائح المجتمع، وتنصب جميع الجهود بهذا الاتجاه ولكن السوأل هل ان توسيع المشاركة السياسية سيؤدي بالنتيجة الى استقرار سياسي؟ في أواخر عام 2012 وفي اكثر من بحث صادر عن المعهد العراقي للاصلاح الاقتصادي تمت الاشارة الى: رغم ان العراق يعتبر الدولة الاكثر نموا بالعالم الا انه بنفس الوقت بلغ حالة مفترق طرق تتراوح بين الحالتين "التفاؤل" و "اليأس" مبينا ان شروط الحالة المتفائلة غير متوفرة، بل على العكس ان شروط حالة اليأس هي السائدة والتي تتلخص باستمرار ضعف الارادة السياسية لتطبيق مفردات الادارة الرشيده وبالتلكؤ في اصلاح البيئة القانونية، وان غياب هذه الشروط سيعيق تطور الحالة الاقتصادية، وان استمرار هذه الحالة سيؤدي الى ضعف مصداقية الحكومة، ومن ثم الى تأجيج الانقسام السياسي والطائفي والقومي (المستتر) الى صراع لا نعرف مدياته (المصدر 1). ان مفردات الادارة الرشيدة تتجسد: •· تبنى الكفاءة بالعمل بما يضمن الجودة وفي وضع الفرد مناسب في المكان المناسب، •· عدم تجاوز القوانين والتعليمات بما يضمن حقوق العاملين والمتعاقدين وسيادة القانون، •· اتباع الشفافية في جميع القرارات بما يحقق الوضوح في التعامل ودرئ المخاطر، •· اتباع الية المشاركة في الادارة بما يضمن الابتعاد عن الفردية، •· واخير العمل وفق ستراتيجية لها المصداقية العلمية.
ان غياب مفردات الادارة الرشيدة في مؤسسة ما ينجم عنها: ان القرارات التي يتم اتخاذها تكون مرتجلة ولا تستند على ستراتيجية محددة، وان الفرد المناسب ليس بالمكان المناسب، كما ان منتسبي المؤسسة لا يتحملون تبعات قراراتهم واعمالهم، وان جميع القرارات والتصرفات داخل المؤسسة لا تلتزم بالاعراف والقوانين المعمول بها، واخيرا لا تتمتع القرارات بالشفافية المطلوبة لازالة الغموض والهواجس. واما عن اصلاح البيئة القانونية فقد باتت في غاية من الاهمية وبقى تخلف تشريعها عقبة في انسيابية الاعمال بطريقة مناسبة على الصعيد الخاص والعام. ان التشريعات السابقة تمثل مرحلة تاريخية تم تجاوزها، وقد سبب بقاؤها اختناقات في تطور عمل اللامركزية كما حرمت المؤسسات من تقديم الخدمات التي يرغب بها المواطن (كما هو الحال في المصارف المعيقة لتطور الصناعة والتجارة) و استمرار ضعف اداء القطاع العام والخاص في تنفيذ المشاريع الخدمية والانتاجية الضرورية لاشباع احتياجات المواطنين المختلفة واستيعاب اكبر قدر من البطالة، ولعل من ابرز القوانين المعطلة والتي لها دور رائد في تفتيت الازمات السياسية هي: قانون الاحزاب، قانون النفط، وقانون البنى التحتية، وقانون الخدمة المدنية.
ومما فاقم المشكلة هي الزيادة المتحققة في انتاج النفط (والتي ادت الى ان يتفوق نمو الاقتصاد العراقي على الاقتصاد الصينى) هذه الزيادة قد رفعت من مستوى توقعات المواطنين للخدمات الحكومية التي يمكن التمتع بها بمقابل ذلك وللاسباب المشار اليها عجزت الادارة الحكومية في الاستجابة لتلك التوقعات. على اساس ماتقدم صنف العراق بالادبيات الاقتصادية واحدة من اعجز الحكومات على الايفاء بواجباتها (المصدر 2)، كما بلغ تسلسل العراق وفقا لمؤشرات البنك الدولي الخاصة بتطبيق معايير الادارة الرشيدة اقل حتى من اقرانه في الدول العربية (وحتى اقل من ناجيريا الدولة الغارقة بالفساد!). ادت العوامل اعلاه الى ضعف ثقة المواطن بعدالة ومصداقية الاجراءات الحكومية، ومع ان التلكؤ قد اصاب كل مناطق العراق بدون استثاء الا انه ركب بعض السياسيون موجة الفشل في تسويق وتأطير الخلافات السياسية والشخصية باطار الطائفية والقومية.
ان بعض عوامل التخندق الطائفي "سلوكية" ففي كثير الاحيان يتخذ موقف فردي على البعض بسب اخفاقهم بتأدي واجب ما (بسب عدم الكفاءة او المقدرة) ويترتب على ذلك تفسير غير موضوعي (طائفي) في حين ان واقع الامر لا يستلزم ذلك، ويكون الضرر الاجتماعي او السياسي اكبر عندما يكون صاحب القرار زعيم قبيلة او زعيم سياسي، الا ان التشابك او التداخل بين العوائل العراقية و منذ القدم في فضاء التنوع المذهبي والقومي العراقي دليل على روح التأخي المتأصلة بين العراقيين، وان التخندق الطائفي الذي يروج له البعض لامكانة له عند العراقين. ان الحراك الطائفي حالة مرضية فردية تنداب كيان العراق تعود اسبابها الى فشل فشل سياسي داخلي وتأمر سياسية خارجي يراد منها تفتيت قوة العراق (كما فتت دول شرق اوربا).
الحقيقة هي ان العدالة بالمشاركة السياسية (المحاصصة) لا تضمن تطور كفاءة الاداء كما بينت تجربة العراق السابقة ونتائج الدراسات السياسية المبنية على ادلة احصائية لعدد من الدول الديمقراطية (والتي فيها تعدد قومي او مذهبي) تنص على "ان المشاركة النسبية بالحكومة لا تمثل بحد ذاتها حلا مستقرا للتناقضات السياسية الكامنة إلا عندما يكون هناك تطور في مؤشر التنمية البشرية كالتعليم الذي يعتبر من اهم العوامل للاسراع بتطبيق الادارة الرشيدة" ( المصدر 3 ). اذ المشاركة النسبية للكتل السياسية لا تؤدي بشكل طبيعي الى تطبيق قيم الديمقراطية المتمثلة بالسعي الى فرض مفردات الادارة الرشيدة، وبغياب هذه القيم لا يكون للمؤسسات المختلفة دور فعال في تقديم الخدمات العامة، وينعكس ذلك على وهن وعدم كفاءة القطاع العام، وضعف تواجد القطاع الخاص المحلي والاجنبي. ان الوهن والضعف المشار اليهما كان مادة خصبة في افتعال الازمات والخلافات القومية والمذهبية والسياسية. ان خير مثال على عدم فعالية المشاركة السياسية وحدها في تحقيق الاستقرار السياسي في العالم العربي هي تجربة لبنان التي لم توفق يوما من الاستقرار المنشود، كذلك في السودان ولغرض حل مشكلة النزاع الدامي في جنوب السودان الذي كان السبب في كثير من المأسي الانسانية. عليه أقدمت حكومة الرئيس السوداني "البشير" عام 2005 بتوقيع اتفاق يمثل تسوية سياسية تتجسد بمشاركة الخصوم السياسين من الاقليات القومية في ادارة الحكم الا ان نتائج هذه المشاركة لم تحقق للسودان الاستقرار السياسي المنشود. تعتبر تجربة السودان تحديا لنظرية "المشاركة النسبية بالحكم" والتي تزعم ان هذه المشاركة تمثل امتصاص لزخم الصراع القومي او المذهبي وتدعي النظرية ان المشاركة السياسية ستكون الاطار الضامن لتطبيق مفردات الادارة الرشيدة ومن ثم الى تنمية بشرية عادلة للجميع تضمن استقرار سياسي. لقد توصلت نتائج الدراسات السياسية والاقتصادية الى ان الادارة الرشيدة هي العامل الحاسم في تقدم ورخاء الشعوب، وعلى اساس ماتقدم فالمشاركة بالحكم في غياب تطبيق مفردات الادارة الرشيد تعنى فوضى كما انه ليس هناك دليلا على ان المشاركة النسبية بطبيعتها تقود الى بناء مؤسسات حكومية تتجسد بها الادارة والحكم الرشيد. انه بناء يعتمد على تطور التعليم (كما حصل في دول شرق اسيا التي حققت المعجزة الاقتصادية) ولم يتحقق ذلك بفضل المشاركة السياسية الواسعة او بفضل الثراوت الطبيعية بل من خلال سياسة طموحة شملت التعليم وبتطبيق مبادئ الحكم الرشيد وبفضل قيادات مهنية. في العراق تمت المشاركة بالحكم على صعيد المؤسسات العامة بصورة بعيدة عن ابسط ممارسات الحكم الرشيد بل كانت اقرب الى توزيع غنائم حرب: سرعان ما اتخمت دوائر الدولة بالمنتسبين على اسس غير سليمة ومتكافئة وبلغ مجموع المنتسبين بحدود 3 مليون وبقيت الدولة العراقية تعاني من نسبة عالية من البطالة. تبع ذلك شعور البعض بالاهمال والتهميش رغم ان الثروة النفطية (وفقا للدستور العراقي) يشترك جميع المواطنين بملكيتها بقدر متساوي الا ان درجة الاستفادة منها انعكست على البعض دون البعض الاخر، وتم العمل بكثير من المشاريع الاقتصادية بغياب خطط ستراتيجية متوسطة او بعيدة المدى ... الخ وعليه من الصعب الادعاء بان المشاركة الديمقراطية قد طبقت بشكل سليم انها اقرب الى ماجاء به القران الكريم " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم". يتضح من اعلاه ان تطبيق الديمقراطية بالعراق لم يكن سليما اذا اكتفى السياسيون بالانتخابات ولم يراعوا تطبيق قيم الديمقراطية (مبادئ الحكم الرشيد) ولا بدعم المنظمات غير الحكومية الساندة والمقومة لمسار الديمقراطية، والاغرب من كل ذلك هو امتناع الاحزاب التي تسعى الى ترشيد العملية السياسية عن تشريع "قانون الاحزاب السياسية" الذي يقنن عملها وفق المعايير الوطنية، لاشك ان هذا امتناع يضع الاحزاب السياسية بحالة مريبة (فاقد الشئ لا يعطيه). ان غياب الحرص على تطبيق قيم ومبادئ الديمقراطية قد وضع الحكومة في قفض اتهام وسرعان ما استغل السياسيون عدم رضا المواطن لتأجيج الخلافات والمساهمة في عرقلة برنامج الاصلاح وتأطير الخلافات بعناوين طائفية وقومية في حين ان اصل الخلافات تعبر مصالح ذاتية مشروعة او غير مشروعة. ان الادعاء بممارسة الديمقراطية ناقص اذا لم يصطحب ذلك الايمان بقيم الديمقراطية متمثلة بمفردات الادارة الرشيدة. ان خصوصية العراق الحالية تتطلب حل الازمة السياسية القائمة بأختيار حكومة تكنوقراطية (من قبل الكتلة البرلمانية الاكبر) غير متحزبة غير محسوبة على الجانب المذهبي اوالقومي، وان العودة الى تشكيل حكومي توافقي على اساس المحاصصة يمثل عودة الى تجارب سنوات الماض القريب. ان خصائص الحكومة المطلوبة لتحقيق الاستقرار السياسي هي: ان تكون حكومة غير متحزبة تتمتع بصفة الفريق الواحد وتتمتع بمهارات عالية تتناسب وحجم التحديات التي يواجهها العراق، وأن يكون لها برنامج عمل يستند على اسس وتجارب عالمية ( كتجربة كوريا ماليزيا و سنغافورة ) ويتم اقراره من قبل مجلس النواب أبتداءا. يتضمن برنامج العمل : أ. الادارة الرشيدة: وضع خطة زمنية لتطبيقها في مؤسسات الدولة بما يضمن سيادة القانون والكفاءة وتحقيق العدالة في جميع الممارسات. ب. التنمية البشرية: وضع خطة زمنية تتضمن اعطاء التعليم اولوية واستكمال متطلبات البنى التحتية باعتماد صيغة عقود "مشاركة القطاع الخاص للعام". ت. اصلاح القوانين والاجراءات: بوضع برنامج زمني للاصلاح يضمن ان يصبح العراق بيئة مناسبة لممارسة الاعمال الاقتصادية. ث. قانون النفط: تشريع قانون ينص على اعتبار النفط ثروة إستراتيجية لكل العراقيين وعلى ان يتناول القانون الاسس السليمة لتجنب العراق سلبيات الثروة المالية النفطية (لعنة النقط). ج. اللامركزية: وضع خطة لبناء القدرات الذاتية للمحافظات وبالاستعانة بالهيئات الاستشارية العالمية. خ. القطاع الخاص: العمل على تنميته ضمن خطة متكاملة يكون من اولوياتها اصلاح الواقع المصرفي. |