لا أظن أن هناك اختلافا كثيرا على كون الأزمة في بلاد ما بين النهرين أزمة سياسية (أسميها أزمة إدارة الدولة)، وأن تلك الأزمة الإدارية منذ 2003 وإلى اليوم كانت سببا في موت مئات الآلاف من العراقيين المدنيين، وعدد آخر من القوات الأمنية، إلا أن عدد السياسيين (أسميهم مسؤولين إذ لا أحزاب سياسية في العراق) الذين قتلوا بفعل الفوضى الإدارية في البلاد لا يكاد يذكر، وهو أمر يثير الكثير من الأسئلة، أولها عن علاقة (من) يقتل العراقيين بالطبقة الحاكمة، بل عن مدى تمثيل هؤلاء الإداريين في البرلمان وبقية السلطات الرسمية للشعب العراقي، وهل يمكن أن نطالب بأن يقتل سبعة من المسؤولين العراقيين حين يقتل سبعة من الشعب الذي انتخبهم ليتصدوا لحمايته.
ومهما كبرت الأزمة العراقية فإن مفتاح حلها بيد الشعب العراقي، لأن النظام الديمقراطي للانتخابات كفيل بأن يوصل المرشحين الذين يصوت لهم الشعب إلى مركز التشريع في مجلس النواب، ومن ثم فإن مجلس النواب بما منحه الدستور من الصلاحيات التشريعية والحصانة التي تمكنه من متابعة ومراقبة كل شؤون البلاد، يستطيع صناعة الهوية المناسبة للأمة، لكن كل ذلك الأمل بازدهار العراق وعودته إلى ركب الدول المتحضرة لم يتحقق، ويبدو أنه لن يتحقق لسنين قادمة.
لا يزال العراقيون، ولا سيما النخب الثقافية الأكثر اطلاعا على النظم الديمقراطية في العالم، والأكثر إيمانا بجدواها، لا يزالون يعولون على شخصيات المسؤولين العراقيين، ويظنون أن شخص رئيس الوزراء مثلا هو أساس نجاح السلطة التنفيذية، وتراهم يتساءلون مَن أصلح لهذا المنصب، مرشح هذه الكتلة أم تلك، هذا التيار أم ذاك؟ وهو ما يفسر بقاء البرلمان العراقي مترددا في إقرار قانون العمل الحزبي، أو قانون الأحزاب الوطنية، لأن العراقيين لا يعيرون أهمية للقانون، ولا للنظام الداخلي، ولا يعولون عليه في إدارة الدولة بقدر اهتمامهم وتعويلهم على الأشخاص.
ما لا يعرفه العراقيون أو ما لا يريدون الاعتراف به والتسليم له، أن العراق بلد وليس دولة، فالبلد هو مجرد بقعة جغرافية يقطنها عدد من الناس، أما الدولة فهي مجموعة النظم والقوانين التي تسير أمور تلك البقعة الجغرافية وتنظم علاقات سكانها، بل وتصنع هويتهم، وتحدد مستقبلهم ونوع الحياة التي يحيونها هم والأجيال اللاحقة.
لا يريد العراقيون أن يُفعّلوا ما هو موجود من القوانين الكفيلة بحياتهم، ولا يريدون البحث عن الخلل في المنظومات الأخلاقية والنفسية والاجتماعية والتربوية والتعليمية والفنية والتجارية والأدبية، وغيرها من النظم التي ورثوها دون دراسة أو إعادة نظر أو تفكير، وكل همهم هو صلاحية هذا الشخص أو ذاك، دون اهتمام بالقوانين التي تحدد طبيعة عمله، وعمل مؤسسته.
هذا بالتحديد دور السلطة التشريعية، وهو في الأصل دور الشعب الذي لم يكن في باله حين انتخب هذا الشخص (غير المؤهل) أو ذاك، إلا أن يقوم ببعض الخدمات كزيادة ساعات التيار الكهربائي، وتعبيد بعض الطرق، وأهمها أن يقوم بتعيين الأقارب في الجيش أو الشرطة أو بقية الوزارات والدوائر الرسمية.
حين يصل الشعب العراقي (ونخبه المثقفة) إلى وعي دور المجلس النيابي (التشريعي) سيكون حسابهم عسيرا لكل من يصل إلى مجلس النواب، وسيطالبونه (عكس ما كانوا طالبوه) بتطهير دوائر الدولة من الموظفين الفضائيين والفاسدين وغير الكفوئين.
على مجلس النواب أن يضطلع بمهمة عصيبة، وهي أن يبني الدولة العراقية، بمعنى أن يضع النظم والقوانين الكفيلة بجعل رئيس الوزراء وكابينته الوزارية فريقَ عملٍ من الموظفين الرسميين المنتجين، وأن يقر التشريعات التي تمنع موظف الدولة من خيانة الدولة أو سرقتها، أو إذلال الشعب أو التعالي عليه.
مهمة مجلس النواب بناء الإنسان العراقي، وتحديد هويته، ورسم مستقبله الزاهر، وهذا لن يتم إلا بمراجعة الدستور، ومعرفة كيف يصبح الدستور مرجعية وطنية عليا تعوّل عليها بقية القوانين في صناعة نظام المؤسسة قبل التفكير في من يديرها، لأن كل مؤسسة تعرف أهلها، وعلى قياس اعرف الحق اعرف أهله، نقول إعرف الدولة تعرف رجالها.