الكليات الاهلية.. منفعة أم مضرة للتعليم العالي؟

اليوم علينا ان ندرك خطورة تفريخ الكليات الاهلية وتأسيسها من قبل كل من هب ودب من السياسيين والمليونيرين الجدد، وأصبح الصمت عن اضرارها للتعليم العالي تخلي عن المبادئ الاساسية التي آمنتُ بها واقتنعتُ بها، وطرحتها في كل مناسبة بدافع اصلاح وتطوير منظومة التعليم العالي، خصوصا ونحن نجتاز في الوقت الحاضر مرحلة حاسمة ودقيقة من تاريخنا المعاصر ضد التحديات والمعوقات التي تعترض مسار الجامعات العراقية وصولا الى ما تستحقه من تقدم ورقي.

اصبح انشاء الكليات الاهلية احد الوسائل لنشر التعليم العالي وتوسيعه في المجتمع العراقي على ضوء أستراتيجية التربية والتعليم العالي في توسيع التعليم، ويتم تشجيع هذا النوع من التعليم على الصعيد الحكومي استنادا على فلسفة تنطلق من مبدأ التكامل بين التعليم الرسمي والتعليم الاهلي واعتبار الاخير احد الروافد المتممة او المكملة للتعليم الجامعي الحكومي (مصدر 1)، لذا بلغت في عام 2013 نسبة الطلبة في الدراسات الاولية للكليات الاهلية حوالي 20% من مجموع الطلبة الاجمالي فضلا عن استمرار ازدياد ارتفاع عدد الطلبة الملتحقين فيها وبمعدل 135% في الفترة من 2009 الى 2013. ويعتقد ان تشجيع التعليم الاهلي جاء استجابة للافتراض بان التعليم العالي يمكنه ان يستقطب اعداد من شباب غير محصنين لابعادهم عن تأثير القوى الارهابية وعن الانحراف بالرغم من عدم وجود اية ادلة او دراسة تؤكد هذا الافتراض، وبالرغم من وجود ادلة معاكسة تثبت وجود ارهابين ومنحرفين من الطلبة ومن حملة الشهادات العليا ومن كل انحاء العالم، هذا علما ان اربعة سنوات من عمر الانسان غير كافية لتحصينه ضد الانحراف والخطيئة.

مشكلات التعليم الاهلي كثيرة وهي لا تقتصر على العراق وانما تتجاوزه الى الدول العربية الاخرى لذا اصبح التصدي لهذه المشكلات جزءا من عملية اصلاح التعليم العالي عبر تشخيص مفاصل الضعف في هذا القطاع والاستعانة بالاساليب الحديثة والوسائل الكفيلة بما يمّكنه من لعب دور ايجابي في تخريج عناصر نافعة ومنتجة للمجتمع.

معظم الدراسات في هذا المجال تنهج نهجا توفيقيا انشائيا تدعو فيه (بصدق ومسؤولية) الى التطوير والتغيير الا انها لا تقدم الا دليلا اضافيا على عجزنا عن ايجاد علاج عبر برنامج اصلاحي كثيرا ما دعينا له ولم نجد آذاناً صاغية. على سبيل المثال تعترف دراسة قدمها محمد طاقة، وحسين عجلان من كلية بغداد للعلوم الاقتصادية بضخامة المشكلات التي تواجه مؤسسات التعليم الاهلي والتي تذكر الدراسة عدد منها كالنقص في الكادر التدريسي، وعدم استقراره سنويا وعدم امتلاك اغلب الكليات والجامعات الأهلية لأبنية (مملوكة)، والبنايات التي تشغلها حالياً غير مناسبة، ونقص المختبرات والتجهيزات الملحقة بها وعدم الاستقرار في سياسة القبول. بالرغم من اعتراف الدراسة بضخامة المشكلات الا انها كما يبدو لم تتطرق الى مشكلات التعليم الاهلي الخاصة به فهي تؤكد على نفس المشكلات التي تعاني منها معظم الجامعات الرسمية ايضا.

بنظرنا تكمن المشكلات الرئيسية للتعليم الاهلي في تمتع هذا النوع من التعليم بمميزات فريدة كالانتهازية والنفعية والربحية خصوصا في مجتمع تقلصت فيه ادوار الجامعة في بناء الانسان ويمر في ازمة اخلاقية واسعة النطاق فيه تتفكك منظومة الوحدة الوطنية بمفاهيم الطائفية السياسية والعرقية، ويتسع فيه حجم الفساد الاداري والمالي لدرجة رهيبة. يدعي البعض ان الكليات الاهلية في العراق تلتزم بالشروط القانونية والاكاديمية والتعليمية لتخوفها من العقوبات ومصير الاغلاق في حالة عدم الوفاء بالتزاماتها. الامثلة على عدم وفاء هذه الكليات بالتزاماتها كثيرة وساتطرق الى عدد منها في هذه المقالة، فهل عوقبت هذه الكليات؟ وهل تم اغلاق تلك الكليات التي اثبتت لنا ان التعليم العالي مجرد سلعة استهلاكية والهدف الوحيد هو الربح؟ وهل تم سحب الاعتراف من تلك الكليات التي تقدم بضاعة فاسدة؟ وهل توجد رقابة حكومية ومجتمعية على هوامش الربح التي تحققها هذه الكليات؟ وهل توجد اي مسؤولية مجتمعية للكلية الاهلية تجاه المحيط الموجودة فيه؟

الكليات (الجامعات) الاهلية في العراق تختلف جذريا عن الجامعات الاهلية في العالم المتطور لانها عندنا تمثل الحلقة الاضعف في التعليم العالي على عكس ما هو معروف عنها في العالم. في الولايات المتحدة تتميز الجامعات الاهلية بالتالي: صفوف ذات أعداد قليلة من الطلبة، وبناء اقوى لشخصية الطالب، ومستوى عالي من العلاقات الشخصية بين الاساتذة والطلبة، ونشاطات متنوعة لتنمية قابليات الطالب المهنية والاجتماعية، واحتمالات اعلى لحصول المتخرج على عمل افضل. كل الجامعات في الولايات المتحدة تستوفي رسوم تسجيل بالرغم من ان الجامعات الاهلية تستوفي رسوما اعلى بكثير مما تستوفيه الجامعات الرسمية وذلك لانها تعتمد بشكل مباشر على تمويل الطلاب والخريجين. ولعل اكبر مميزات الجامعات الاهلية هو صعوبة الحصول على قبول فيها، فجامعة هارفارد التي تعتبر من اعرق الجامعات في امريكا لا تقبل اكثر من 1650 طالب سنويا وبذلك فهي لا تقبل الا جزء قليل جدا من الطلبة المتقدمين لها. الجامعات الاهلية الامريكية تحتضن افضل الطلاب بينما تحتضن الكليات الاهلية العراقية (مع بعض الاستثناءات القليلة) اسوأ الطلاب من ناحية التحصيل المدرسي، أي الذين لا تؤهلهم معدلاتهم للقبول في الكليات الرسمية (الحكومية). اين هي الكليات الاهلية في العراق من مستوى الجامعات الاهلية في امريكا؟ يبدو انه لا يوجد اي مجال للمقارنة فهي تبدو تماما على عكس الجامعات الاهلية الامريكية، وفي كل المعايير الاكاديمية والتربوية. بصراحة، معظم الكليات الاهلية في العراق مؤسسات لبيع الشهادات لمن لا يستطيع الحصول على مقعد في الجامعات الرسمية ولمن يستطيع دفع ثمن الشهادة، فمهما كانت هذه الكليات حريصة على ان تبدو كبقية الجامعات من الناحية الاكاديمية، ومهما يكن اعضاء هيئة تدريسها مخلصين وكفؤين تبقى رسالتها "منح الشهادة اولا والمعرفة ثانيا"، ويبقى هدفها هو تحقيق ارباح وذلك بقبول اكبر عدد ممكن من الطلاب، وهذا لا يتحقق بضمان الجودة، بل بضمان شهادة التخرج للطالب. الكليات الاهلية العراقية (بأستثناء بعض الكليات التي تدار من قبل النقابات ومؤسسات النفع العام ومنها الكليات الدينية)، في مأزق كبير بسبب التناقض بين هدف تحقيق الربح لمالكيها واداراتها عن طريق تحقيق نسب نجاح عالية وهدف اعضاء هيئة تدريسها في مكافأة الطلبة استنادا على درجة معارفهم وجهدهم الاكاديمي. الربح الفاحش والسريع اصبح هو الدافع الاساسي لانشاء الكليات الخاصة حيث اكد لي احد زملائي الاكاديمين بداخل العراق ان اصحاب معارض سيارات واصحاب مهن حرة باتوا يفكرون بجدية لفتح كليات عن طريق استقطاب اساتذة متقاعدين مقابل مبالغ بسيطة. والسبب الآخر المهم الذي يمنع معظم الكليات الأهلية من ان تصبح مؤسسات تربوية اصيلة لتوسيع نطاق المعرفة وافادة المجتمع هو عدم توفر مناخ ملائم وثقافة مجتمعية خاصة بالكلية لاسباب عديدة منها عدم توفر كادر تدريسي ثابت ومستقل له طموحات اكاديمية ونشاطات علمية غير صفية، وعدم قدرتها على التواصل مع الخارج، وضعف هيكليتها الاكاديمية.

تنص المادة 9 من قانون الجامعات والكليات الاهلية لعام 1996 على خضوع الجامعات والكليات الاهلية الى اشراف الوزارة من الناحيتين العلمية والتربوية وذلك باعتماد الاساليب والصيغ المتعارف عليها في التقاليد الجامعية بما يؤمن المستويين العلمي والتربوي، ومع ذلك لا ينص القانون على عدد من المستلزمات المهمة لتأمين المستوى العلمي ولادارة مثل هذا القطاع الحيوي مثل تحديد اعداد المقبولين سنويا ودرجات الدراسة الثانوية وشروط القبول ومتابعة نشاط الكلية وتقييم ادائها، ولا يفرض عليها تشكيل مجلس امناء مستقل من كبار العلماء والاساتذة المتخصصين والشخصيات العامة، ولا مستشارا علميا للكلية، ولا التزاما بمعايير اعتماد عالمية معترف بها وبمقتضى احكام خاصة كما هي العادة في معظم الجامعات الخاصة العربية والعالمية. ومن المدهش ان القانون اعطى للوزير صلاحية غلق القسم او الفرع العلمي في حالة مخالفته للشروط المطلوبة ولم يعطيه الحق في غلق الكلية برمتها او فرض غرامات مالية عليها.

دعني اسجل عدد آخر من المظاهر السلبية التي تتمتع بها كثير من الكليات الاهلية وعلى ضوء ما ذكره لي عدد من الاكاديمين العراقيين المعروفين بنزاهتهم وعلميتهم:

1. الكليات الخاصة اصبحت مرتع للطلبة المترفين من الذين لم يتمكنوا من دخول الجامعات الرسمية بناءً على رغبة عوائلهم للحفاظ على مكانتهم الاجتماعية (وليس لاجل ابعادهم عن الارهاب والانحراف استنادا الى فلسفة التعليم العالي).


2.يتم تأسيس الكليات الاهلية على اساس عدد التدريسيين من حملة الشهادات العليا، لذا يتم الاتفاق مع بعض التدريسيين المتقاعدين مهما كانت اختصاصاتهم، فعلى سبيل المثال في احدى الكليات رئيس قسم هندسة الاتصالات هو خريج كلية الزراعة، ورئيس قسم تقنية الحاسبات هو خريج ادارة واقتصاد، اي لاصله لهم باختصاص القسم.


3.عميد الكلية او رئيس الجامعة الاهلية اشبه "بسلطان عثماني" حيث له الحق في فصل التدريسي متى ما شاء ولاي سبب كان.


4.قبول بعض الطلبة على الدراسة المسائية من موظفي الدولة وغالبيتهم من الضباط والاداريين في دوائر الدولة وبعضهم يملك نفوذ يفرضه على اساتذة الجامعة لغرض مساعدتهم في التغاضي عن الغيابات الطويلة والمتكررة وبالتالي التغاضي عن عدم حضورهم الامتحانات واعطائهم درجات في نهاية الفصل من غير جهد او عناء، والبعض منها يعود الى الفائدة المتبادلة بين الطرفين، اي على سبيل المثال ضابط في المرور يصدر اجازة سوق لاحد الاساتذة مقابل تمشية اموره بالدرجات.


5.كثرة التجاوزات اللاخلاقية للطلبة على اساتذتهم، لان شعار الادارة هو خسارة استاذ هي افضل من خسارة طالب.


6. تقاضي بعض اعضاء هيئات التدريس رشوات من الطلبة مقابل التغاضي عن غيابهم.


7.مساعدة الطلبة بطرق غير اخلاقية لتجنب الرسوب والفشل في الدراسة.


8.تفشي الغش بحيث انه اصبح حالة طبيعية.


9. تفشي مظاهر الترف القائم على الغنى والاهتمام فوق العادة بالامور غير الاكاديمية والعلمية.


10.كثرة أعداد الطلبة في القاعة الواحدة حيث يحشر اكثر من 60 طالب في قاعة لا تتسع الى اكثر من 30 طالب.


11.انخفاض المستوى العلمي بدرجة مذهلة حيث تبين عند اجراء امتحانات مركزية لبعض المواد الدراسية لطلبة المراحل النهائية في العام الماضي عندما فشل اكثر من 80% من طلبة الكليات الخاصة بالرغم من التسهيلات المقدمة لهم.


12. اغلب الكليات الاهلية عبارة عن بيوت سكنية او عمارات خالية من ابسط مستلزمات التعليم العالي.


13.الدوام في كثير من الكليات الخاصة لا يتجاوز يومين او ثلاثة ايام في الاسبوع لعدم وجود الجدية والاندفاع والحماس عند التدريسين والطلبة على حد سواء.


14.المواد التدريسية عبارة عن ملازم من وريقات معدودة لا تتناسب مع اهمية المادة والمستوى العلمي الضروري لمنح الشهادة.


15.قبول اعضاء لمجلس النواب للدراسة فيها، ومن ثم ارسال من ينوب عنهم في الدراسة، وقبول طلبة وفقا للمحسوبية والمنسوبية خصوصا في الكليات الطبية والهندسية.


16.كثرة اصحاب المعدلات العالية من خريجي الكليات الاهلية اصبحوا ينافسون خريجي الجامعات الرسمية في القبول في الدراسات العليا، وبالرغم من ان اغلبيتهم يرسب في امتحان القبول يتم قبول عدد منهم بسبب معدلاتهم العالية.


وفيما تبقى ليس لي الا القول بان الجامعات الاهلية يمكنها من ان تساهم "لدرجة ما" في التقدم العلمي في البلد اذا ما تم اعتماد سياسة من خلالها يتم التزام الكليات بالجانب العلمي، ودوام الطالب، واستخدام مناهج متطورة واساتذة اكفاء، وفتح برامج علمية بناء على حاجة السوق، وتوفير روؤس اموال كافية اهلية وحكومية مشتركة، والاستفادة من خبرة الجامعات العالمية لاسيما خبرة الاساتذة العراقيين المغتربين.

النتيجة اننا نحتاج الى وقفة جديدة امام وضع الكليات الاهلية ونحتاج الى اصلاح جذري لهذه المؤسسات التربوية المهمة. قلنا سابقا (مصدر 2) ان (الاصلاح عملية ضرورية للتعليم العالي في العراق كما كانت عليه البريسترويكا، اي اعادة البناء بشكل صحيح سليم، بعيدا عن الترميم والترقيع، بناء مبني على اسس علمية كما تبنى عليه الجامعات في الدول المتطورة، بناء على الصراحة والموضوعية، وهو بناء يحتاج الى تفكيك وتهديم بعض اجزاء النظام القديم، فلا اصلاح بدون تهديم، والاصلاح لا يتحقق بدون دفع ثمن سياسي واجتماعي ومالي وقد يكون الثمن باهظا، لذلك يتطلب الاصلاح ارادة وقوة وجرأة وبالطبع معلومات كبيرة عن واقع الجامعات العالمية ومعرفة بمتطلبات سوق العمل وبالواقع الاقتصادي والاجتماعي). هذا ما هو ضروري ويتطلب اجراءه وعلى وجه السرعة لانقاذ واعادة بناء نظام التعليم العالي الخاص.