طال وقوف المسافرين في طابور طويل بمطار مشهد الإيراني ، ذات يوم من أيام صيف العام 1995 ، فبدأوا يتجاذبون الحديث مع القريبين منهم ، في محاولةٍ لتمضية الوقت . لشديد دهشتي ، كان الأقرب إليَّ عراقياً . بعد السؤال و السلام و عليك ( كما يصطلح الإيرانيون ) كشف الأخ عن مكنونات قلبه . عندما عرف طبيعة عملي الإعلامية ، طالب بتفاصيل . و لما كنت - و ما أزال - ميالاً لتقديم أقل قدر من التفاصيل لمن لا أعرفه من قبل ، قلت له : يمكنك أن تعتبرني مقرّباً من العالِم المعروف السيد محمد تقي المدرّسي . هنا ، انفتحت قريحة الرجل . كان كردياً . و كان من كوادر " الإتحاد الوطني الكردستاني " . و كان ... و تشعّب الحديث و اتّسعت مجالاته ، لكن الذي أثار استغراب محدّثي ، أنني - كما عبّرت له - لا أحتفظ بمودّةٍ ما إزاء " اليكتي " ! معقول يا رجل ؟ تساءل . فعلاقاتنا بالغة القوة مع " السيد " و الإخوة في " المنظمة " ( يقصد العمل الإسلامي ) و التنسيق بيننا متواصل . أوضحت له حقيقة كان لا بدّ من إيضاحها ، و هي أنني مجرد إعلامي في مؤسسة " السيد " ، من دون أية انتماءات ، حتى للسيد نفسه ، إلا الإنتماء الإيماني العام ، الذي نتشارك فيه . و قلت أيضاً ، إنّ ذاكرتي القريبة و البعيدة تختزن صوراً قمعية لمن كان الأصدقاء الشيوعيون يدعونهم بالجلاليين ( نسبة ً إلى الرئيس العراقي السابق جلال طالباني رئيس اليكتي ) منها مجزرة پُشت آشان التي راح ضحيتها عدد كبير من المعارضين لحكم صدام ، فضلاً عن قطع الطريق على المعارضين الشيعة و احتجازهم مطلع الثمانينات إلخ. قلت كذلك ، إن انشقاق اليكتي عن الپارتي ( الحزب الديمقراطي الكردستاني ) عام 1976 أضعف الحركة التحررية الكردية ، و إن البارزانيين هم أقرب إلى روح الشعب الكردي اجتماعياً و دينياً و سلوكياً من مجموعات يسارية ( دموية أحياناً ، هذا ما قلتُه ! ) و لذلك أفضّلهم كصديق للشعب الكردي . لم يُضف الصديق العابر أكثر من جملة واحدة ، نودينا بعدها للتحرك نحو الطائرة ، و هي : يبدو أن دماغك مغسول يا صديقي ، فحزبنا هو حزب المثقفين و الناضجين و التقدميين ، أما الآخرون ، فليسوا أكثر من إقطاعيين ، يتوارثون الأرض و الناس و الإمكانيات أباً عن جد و يورثونها لأبنائهم . عقب سنين متطاولة ؛ ترنّ هذه العبارة في الذهن ، مدعمة ً بالعديد من الأدلة . ففي حين يتميّز " الإتحاد الوطني الكردستاني " بشخصيات هادئة و مثقفة و ناضجة ، تجيد الإمساك بأطراف الحديث بأية لغة ، و تُحسن تحديد ما تريد و ما لا تريد من دون انفعال و لا خُطب نارية ، و تتشارك مع " الرفاق " من خلال قيم و صلات نضالية و سياسية ، لا روابط عائلية و مصاهرات و ولاءات قبلية ، يتقاسم قادة الحزب المنافس السلطة و المال و العباد على طريقة تقسيم " القسّام الشرعي " ! و هذه هي المفارقة التي لم يلتفت إليها المركز العراقي بعد ، إذ ما يزال يتعامل مع كتلة رئيسية كبيرة كالتحالف الكردستاني ، على الطريقة العراقية المعروفة " الگوترة " بينما كان يمكن له ، و يمكن له فعلاً ، أن ينتقي و يختار و يفضّل هذا على ذاك ، و يُزيد حظوظ زيد على عبيد في أية ترتيبات مستقبلية .
|