من يبقى للعراق الجريح !

قصدت أن أبدأ مقالتي بآخر كلمة سمعتها من شخصية ثقافية نسائية عراقية معروفة , حين قلت لها : لقد خرج الكثير من المثقفين الى الخارج فماذا تنتظرين وأنتِ شخصية نسائية معروفة ومن عائلة وطنية عريقة , ربما ستكونين مستهدفة , وكما ترين , العراقيون يقتلون بعضهم بعضا , والمسلمون يُكفر بعضهم بعضا , مُعصبين أعينهم فلا قرآن نزل ولا نبي أُرسل , بل أعراف وشرائع لا سماوية , تنخر الجسد والروح العربية , قالت : العراق بلا رئيس ولا حاكم , بل تحكمه الطوائف , وإذا خرجنا كلنا من العراق ( فمن يبقى للعراق الجريح ) . هزني ما قالته , وقلت في نفسي لقد قُتل خيرة شباب ومثقفي العراق , وهاجر شباب بعمر الورد يطلبون رعاية الأمم المتحدة ولا يدري هؤلاء ولا الأمم المتحدة الى أين المصير .
قرأت مؤخراً لكاتب أمريكي يقول المسلمون ليسوا سعداء لا في العراق ولا في مصر أو في سوريا أو في إيران أو أفغانستان أو تونس وليبيا , لكنهم سعداء في البلدان الغربية لأنهم أحرار في عقائدهم وشعائرهم وأفكارهم , ولكنهم مع ذلك يريدون تغيير هذه الدول لتكون على شاكلة الدول العربية والآسلامية , ولا يدري أحد كيف يفكر العربي والمسلم وماذا يريد .
تبعث آلاف الأمهات العراقيات بفلذات أكبادهن الى جبهات القتال ليقاتلوا ما أسميتهم ( دود الأرض ) الذين يبتلعون كل شيء , كل حضارة , وكل عقيدة وكل مبدأ سامي , وكل إيمان حقيقي .
حين كان الإسرائيليون يقصفون ليل نهار غزة ويقتلون العشرات كان يُجاهد الداعشيون ( جهاد النكاح ) ويهاجمون البيوت العراقية بحثاً عن نساء يغتصبونهن , وتأتي الأخبار عن حوادث بشعة حول مجموعة من عصابات داعش وهي تهاجم بيتاً عراقياً لا يحوي سوى النساء , فتيات صغيرات مع الوالدة ورجل مريض , وقد أُضطرت الأم لكي تحمي بناتها أن تقدم نفسها لهم مُرغمة بدل بناتها , وقد أيقنَت بأنه مُحال أن يخرجوا دون حصولهم على الغنيمة , وهكذا يعود نظام السبي والغزو من قِبل مجاميع غير متشابهة وغير متجانسة وغير متفقة حتماً إلا على الهمجية , وسيأتي حين بسبب شراستها المستأصلة ستعض بعضها بعضا حينما يعز عليها أكل الغنائم .
على كثرة ما قرأت عن السلوك الحيواني , لم أجد حيواناً كبيراً أو صغيراً , مفترساً أم أليفاً , من الفيل وحتى الفراشة , يقتنص أُنثى إلا برضاها , فما بال الجنس الإنساني يتحيوَن كثيراً ويبتعد عن جنسه قليلاً قليلاً حتى يصل الى الحضيض .
لقد قلت مرة أن الجسد العربي قد أصبح مُستهلَكاً ومريضاً حين تهدمت القاعدة المادية القديمة بفعل الزمن وتآكلت القيم القديمة التي أنتجتها ولم يبق منها إلا التسميات والدعوات للرجوع إليها مثل ( النخوة والشهامة ) وأُستُبدلت بمفاهيم مثل ما هو لي هو لي وما هو لك هو لي أيضاً , وتُرجم بعشوائية المثل الإنكليزي القديم ( أُمور كل فرد هي ليست أُمور أي فرد ) وطُبق حرفياً وبقسوة شديدة حيث لم يعد يكفي سور البيت لحماية سكانه , ولم يعد رجال البيت قادرين على حماية نسائه , ولم يعد رجال الوطن قادرين على حماية أوطانهم لأن ما هو خارج البيت والوطن قوي وشرس لكنه متعفن وليس لدينا إلا أن ننتظر حتى يتم تعفنه وينمحي من الوجود , وهذا يحتاج الى وقت طويل ونحن ليس لدينا هذا الوقت , وعلى هذا لا محالة يجب أن نضحي بالكثير , القادة بملياراتهم والأمهات بأولادهن والمثقفين بأسمائهم اللامعة وبما تعلموه بلغاتهم الأجنبية وأن يتعلموا لغة الشارع والتي لا يعرف الفرد البسيط غيرها , بها يبكي وبها ينوح على قتلاه , وبها ينتقد الفساد الذي يأكل أجساد أطفالنا الأبرياء وأجساد فقرائنا المتسولين .
لقد أثارت فيّ صديقتي العزيزة الشجون الكثيرة والتي أرجو أن لا يفارقها الوطن وأن لا تفارقه أبداً , وأن يبقى هو جزء منا ونحن جزء منه , وبما أننا قدإخترنا الحُصرم فلا يجب لأولادنا أن يضرسوه .