التعريف ألأصطلاحي لكلمة المثقف كما وردت في معجم المعاني الجامع : رَجُلٌ مُثَقَّفٌ : مُتَعَلِّمٌ ، مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْمَعَارِفِ ، أَيْ ذُو ثَقَافَةٍ أما تعريف الثقافة كما وردت في العجم الوسيط فهي من ثَقِفَ يثقَف، وثَقُفَ يثقُف، ثَقْفاً وثَقَفاً وثقافة : صار حاذقاً خفيفاً فطناً ومنه ثَقِفَ الكلام: حذقه وفهمه بسرعة اما مصطلح المثقف كما وردت في معجم المعاني الجامع فهي : مُتَعلم ، من له معرفة بالمعارف ، أي ذو ثقافةٍ . لقد كان موضوع الثقافة والمثقف في العراق وعلى مدى عقود منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في بداية العشرينات من القرن الماضي موضوع صراع طويل ومرير بين السلطة الممسكة بأدوات الثقافة من وسائل إعلام مقروءة ومسموعة ومرئية ومطابع ومؤسسات ومراكز علمية وثقافية تعنى بالشؤون الثقافية مثل وزراة الأرشاد ووزارة الثقافة والأعلام ودور الشؤون الثقافية ومديريات السينما والمسرح ودار الأذاعة والتلفزيون والمعارض الفنية من جهة وبين المثقف المغلوب على أمره من جهة أخرى والذي كان يقف أمام خيارين لاثالث لهما أما أن يركب موجة السلطة ويتحول إلى بوق من أبواقها ويستفيد من أمتيازات تلك السلطة في تبوئه مراكز قيادية في النقابات الفنية والثقافية والأعلامية ومراكز الأعلام والوظائف المدنية في السلك الإداري وما يلحق بها من إيفادات ومشاركة في مهرجانات عالمية وعربية أو يلتزم الصمت ويبحث له عن مهنة أو وسيلة تؤمن له ولأسرته مورد معاشي يقيه الجوع والعوز ولنا في معاناة أدباء كبار أمثال ( بدر شاكر السياب 1926 – 1964 ) وشاعر العرب الأكبر (محمد مهدي الجواهري1899- 1997 ) والسيد ( أحمد الصافي النجفي1897 – 1977 ) أمثلة على ماكان يعانيه الأدباء المبدعون في مواجهة السلطة الحاكمة التي لم يكونوا في وفاق معها سواءاً في العهد الملكي أو العهد الجمهوري . وكان تسلم زمام المؤسسات الثقافية بالعراق خلال العهدين الملكي ( 1921 – 1958 ) والجمهوري ( 1963 – 2003 ) إلى شخصيات عروبية بعيدة عن الواقع العراقي وظروفه المحلية والتاريخية والسياسية سبب من أسباب أزمة المثقف والثقافة في العراق الحديث بل أن ذلك السبب عمق الشرخ والوقيعة بين الواقع العراقي ومتطلباته الثقافية والأدبية في مقابل مؤسسات يديرها أشخاص لاهم لهم سوى ترسيخ مفاهيم سياسية وأيدلوجية لاتخدم بالنهاية سوى أفكار وأشخاص لن يكونوا سوى مرحلة عابرة في تاريخ العراق الوطني وهذا بالضبط ما فعله أشخاص مثل ساطع الحصري وميشيل عفلق والياس فرح بالهوية الثقافية العراقية طيلة ما يقارب من 80 عام من عمر العراق الحديث . أن المُطلع على الأوضاع العراقية في الوقت الراهن بعد 2003 لن يجد صعوبة في تسجيل الأنطباع السيء لما آلت إليه البلاد خلال العشر سنوات الماضية وأن لم تكن وليدة ظروف واقعية مستجدة بقدر ما هي أمتداد لإنتكاسة البنية الداخلية برمتها منذ قيام الحكم الملكي عام 1921 وبعده تسيد الفكر الشوفيني المتطرف لحزب البعث على حكم العراق منذ العام 1963 وحتى سقوط النظام البعثي سنة 2003 وهو نتاج طبيعي لتلك المراحل المهمة من تاريخ العراق الحديث . قمثلما كان التركيز في العهد الملكي على سلخ الهوية الوطنية للعراق وتحويله إلى حلقة صغيرة في منظومة النظم الملكية العربية المرتبطة بالإستعمار البريطاني فلقد كان أيضاً العمل الدؤوب لمؤسسات الدولة في عهد البعث هو تحويل مسار الثقافة العراقية التي حاولت خلال معاركها الوطنية مع المشروع الشوفيني أن تسجل الكثير من النقاط لصالح مشروع انتلجنسيا العراق منذ ستينات القرن الماضي وحتى فترة الإستبداد الشمولي الذي بدأ في نهاية السبعينات مع وصول الطاغية صدام رسميا لسدة الحكم وأعلانه مشروعه العروبي الدموي بإسقاط كل من لايؤمن بفكر البعث من قوى يسارية كانت لها حظوة كبيرة في الساحة العراقية مثل الحزب الشيوعي العراقي والأتحاد الديمقراطي والاتحاد الوطني الكردستاني وقوى اليسار الديمقراطي التي كانت تراهن في فترة ما على الوصول ﺇلى نوع من التوافق مع المشروع البعثي من خلال ما عرف بالجبهة الوطنية الذي أنعقد في تموز 1973 والتي كان الغاية من تأسيسها كما يبدو في أجندة البعث أن تكون الغطاء لتمرير صفقاته ومشاريعه الإقتصادية والتسليحية مع الإتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي . لقد وجدت القوى التقدمية ممثلة بشريحة المثقفين الذين آثروا الأنزواء أو الهجرة أو حتى حمل السلاح في كردستان في شمال العراق وجدت نفسها وقد أقصيت من المشاركة في قيادة المنظومة الثقافية أو المشاركة فيها بعد إغلاق صحفها والتعرض لأشخاصها سواءاً بالمغريات المادية أو بالتخويف والإجبار على السكوت أو الهجرة ففي وقت مبكر من وصول البعث ألى السلطة أصدر الحزب مجموعة من القوانين الأقصائية والقمعية ضد من أعتبرهم خصومه التقليدين لأسباب عقائدية حيث أصدر قانون المطبوعات في شباط 1963 والذي حضر بموجبه كل الصحف والمطبوعات التي كانت رائجة في العهد الجمهوري خلال فترة حكم الزعيم عبدالكريم قاسم وتخوين كل من أنتمى لتلك الاحزاب وعرضه للقتل والحبس والمطاردة . وفي محاولة منه لتأسيس تأريخ عقائدي جديد للعراق قاد الطاغية صدام حملته المشؤومة ( ﺇعادة كتابة التاريخ ) والتي هيأ لها كل الوسائل التي تساهم بنجاحها ووضع تحتها كل ﺇمكانات الدولة المادية فعقدت الندوات والمؤتمرات والمنتديات وألفت الكتب وأنتجت الأفلام والمسلسلات وحاول البعض ممن أوكلت لهم هذه المهمة تبييض الصفحات السوداء من تاريخ العراق والأساءة ﺇلى الصفحات الناصعة والمشرقة من تاريخه عن طريق تأليف الكتب ونشر المطبوعات ومنها نشر كتاب محمود الجومرد ( الحجاج رجل الدولة المفترى عليه ) محاولاً تلميع صورة واحد من أسوء الطغاة الذين حكموا العراق بعقلية عنصرية طائفية بغيضة كان سلاحه فيها القتل والتهجير والتمثيل والحبس ، الحجاج الذي قال عنه عمر بن عبدالعزيز ( لو جاءت كل أمة بخبيثها وفاسقها لزدنا عليهم ) فتحول بقدرة التاريخ الجديد ﺇلى مفترى عليه ثم أخذت هذه الثلة المأجورة تبحث في التاريخ القريب للعراق فتناولت ثورة العشرين واحدة من أشرف ثوراته وأعظمها شأناً وجعلت منها حدثاً شخصياً عابراً بين الشيخ حارث الضاري الأب والقائد الانكليزي لجمن في فيلم المسألة الكبرى الذي أنتج عام 1983 للمخرج العراقي محمد شكري جميل لتحول تاريخ ثورة إلى تاريخ عشيرة وقلبت في التاريخ القديم وجعلت من حضارة وادي الرافدين بتراثها الكبير الزاخر أمتداد لعصر طاغية العراق وهدمت مواقع أثرية ضخمة وأعيد بنائها من جديد وكتب عليها شعار المرحلة الجديدة والتاريخ الجديد . لقد سجل الصراع الذي خاضته القوى التقدمية المثقفة ضد مؤسسات الحكم الرجعي الشوفيني الأمنية والأعلامية فشلاً أخلاقياً وسياسياً لجميع مؤسسات الحكم ليس في العراق وحده بل في المنطقة العربية التي كانت تحتمي بالسلطة سلاحاً ضد كل من يقف بوجهها وأنهياراً لقيم معتدلة وحداثوية كان يمكن لها أن تقدم خلاصة تجربتها الثقافية في خدمة المشروع الوطني بدل الأحتماء بأيدلوجيات قمعية كانت تحمل في طياتها بذور فشلها واندحارها ففي نهاية السبعينات من القرن الماضي أصبحت السلطة الحاكمة في واد وطبقة المثقفين الأحرار في واد آخر وانتهت الفترة الذهبية لعصر الثقافة التي حمل تنوعها مجموعة من الطلبة الدارسين في المعاهد والجامعات الاوربية أمثال فاضل خليل وصلاح القصب وقاسم محمد وعوني كرومي بالأضافة إلى الامتداد الستيني لجيل الثقافة العراقية ممثلاً بالكاتب حسين مردان وعبد الخالق الركابي والشاعر عبد الامير الحصيري وموسى كريدي والكاتب غائب طعمة فرمان ومعاذ يوسف وعادل كاظم والشاعر عبدالوهاب البياتي والشاعر بلند الحيدري وكذلك الأضافات الجادة والرصينة التي مثلتها مجموعة من الأدباء المتميزين الذي وجدوا في بغداد ظالتهم في الأبداع والأنتاج الثقافي أمثال عبد الرحمن منيف وجبرا أبراهيم جبرا وبدأت الخطوات الجادة لعصرنة الثقافة والمسرح العراقي بصبغة حداثوية أستلهمت ماتوصلت إليه التجارب العالمية في هذا المجال فكان المسرح التجريبي الملحمي لبريشت الذي قدمه الفنان المخرج إبراهيم جلال والكاتب المسرحي عادل كاظم في مسرحية الحصار وكذلك الفنان المسرحي قاسم محمد في مسرحية كان ياماكان وغانم حميد في تجربة مبكرة في مسرحية المفتاح للمسرح الفني الحديث وتجربة عوني كرومي الأبداعية في مسرحية الانسان الطيب عام 1985 وقدم الفنان الدكتور صلاح القصب تجاربه الريادية للمسرح العراقي في مسرح الصورة المستلهم من التزاوج بين التغريبية والمحلية وكانت قد نشرت رواية النخلة والجيران لغائب طعمة فرمان في العام 1965 لتستلهم لعمل مسرحي حمل نفس الأسم في العام 1969 للمخرج قاسم محمد لكن ذلك لم يستمر طويلاً حين تحولت مخالب البعث إلى أنياب حادة تمزق كل من يقف في طريقها مع بدأ حملة التصفيات الجسدية التي نفذتها الأجهزة الامنية ضد كوادر الحزب الشيوعي وحزب الدعوة في نهاية والتنظيمات الكوردية في نهاية السبعينات من القرن الماضي حيث أدى ذلك إلى تحول مجموعة كبيرة من المثقفين والكتاب العراقين إلى صف النظام والترويج لثقافته العنصرية والشوفينية كما حدث مع كتاب مثل عبد الرزاق عبد الواحد وطراد الكبيسي ومحسن الموسوي وعزيز السيد جاسم وحاتم الصكر وياسين النصير وكمال سبتي ووارد بدر السالم وخزعل الماجدي وحميد المطبعي وعادل كامل ونفس الشيء حدث بالمسرح العراقي حين أنتقلت بوصلة المسرح العراقي من اليسار إلى اليمين ب180 درجة مؤية كما حدث مع إبراهيم جلال ومحسن العزاوي وسامي عبد الحميد وغيرهم . لقد تحول المسرح العراقي الذي كان يمتاز بشاعريته وتذوق جمهوره من مسرحيات ( الطوفان ) و( وترنيمة الكرسي الهزاز ) ﺇلى مسرحيات ( جاي وجذب ) و ( بيت الطين ) ومن الفرق المسرحية التي كان لها دوراً كبيراً في إشاعة الثقافة المسرحية بالعراق مثل فرقة ( 14 تموز ) و (المسرح الفني الحديث ) و ( مسرح الطليعة ) و ( مسرح السبعين ) و( فرقة المسرح العمالي ) ﺇلى ( فرقة المسرح العسكري ) و( مسرح النجاح ) و (المسرح التجاري) وأختفت من واجهات المسارح عناوين لامعة مثل ( الطوفان وتموز يقرع الأجراس ) لعادل كاظم وحلت محلها مسرحيات مثل ( بيت وخمس بيبان ) ومسرحية ( بين مريدي ولندن ) وانطوت صفحة الروائي والقاص العراقي غائب طعمة فرمان ( 1927 – 1990 ) ورائعته ( الشجرة والجيران ) ليشد الرحال مغترباً إلى موسكو ويعتلي ساحة الرواية واحداً من مروجي فكر البعث الشوفيني عبد الأمير معلة ويقدم روايته ( الأيام الطويلة ) كفرض طاعة لسيده صدام ليحظى بالقبول ويلحق بركب المناصب والمراكز النقابية والوظيفية التي كانت تنتظر من يقدم فروض الطاعة والولاء بينما يهاجر مبدع آخر وهو المخرج المسرحي جواد الاسدي ثم يلحق به الراحل المسرحي الدكتور عوني كرومي وفي وقت متأخر هاجر قاسم محمد وبدري حسون فريد وآخرون ليظهر بدلاً عنهم في ساحة الإبداع مقداد مسلم وقاسم وعل السراجي وعمران التميمي وحيدر منعثر ومحسن العلي . أذا كان ماحدث للثقافة العراقية وكما وصفة أحدهم من صف النظام ذات يوم ( تلك لم تكن هزيمة بقدر ماكانت أنتكاسة للثقافة العراقية فأننا اليوم بحاجة إلى ثورة كبيرة في مجال الثقافة والفنون والأدب وأنتاج جيل جديد من المثقفين لم يتلوث بعد بما أصاب هذه الثقافة من أدران وأمراض ليخلق منظومة ثقافية عراقية وطنية خالصة .
|