هل فقد الوضع العراقي بوصلته، وهل دخلنا في المجهول، ام ان هناك مجالا للأمل؟!
كان من المفروض ان تكون عملية اسقاط النظام السابق على يد القوات الاميركية بصورة رئيسة، فرصة لمداواة جراح العراقيين وإعادة بناء البلد؛ ولكنها لم تجر كذلك، اذ ان الذي حصل، ان معظم السياسيين الذيم افرزتهم المرحلة الجديدة، ولاسيما في مفاصل الحكومات التي أعقبت التغيير، لم يعبأوا بالشعب؛ بل بنيل المغانم الشخصية والحزبية، خصوصا مع تواجد الخيرات الوفيرة في العراق، فاغتنى السياسيون والمقربون اليهم ومريدوهم الاقربون وتكسبوا، وظلت الغالبية الساحقة من الشعب تعاني الامرين.
ان عملية الاستئثار بالثروة، والفساد الذي رافقها أدت الى إعادة انتاج نمط التفكير الاستبدادي والدكتاتوري، وان لم يصرح احد من المسؤولين بذلك، فاصبح المسؤول حتى في الحلقات الدنيا مصرا على البقاء في منصبة، برغم تواصل الكوارث والفشل في اعادة البناء والاعمار، الذي عانت منه البلاد طيلة عقود؛ ولقد نتج عن ذلك ان اصبح المسؤولون متخوفين من ترك المنصب، بعد ان كونوا لهم مجاميع ومراكز قوى وحتى "مافيات" تنفرد بكل شيء، وغدا عسيرا على أي كان من المسؤولين ان يفكر في ترك منصبه خوفا ـ بحسب تصوره ـ من فقد تلك الامتيازات ومساءلته ومحاسبته، ولذلك لجأ كثيرون ممن تبوأوا المناصب ومنهم وزراء ائتمنهم الشعب على ماله الى الانتقال للعيش في بلدان أخرى مع مغانمهم بمجرد ظهور بوادر ترك المنصب، وانعدمت ما تسمى بثقافة الاستقالة برغم الإخفاق الفاضح، واصبح من النادر اذا لم يك من المستحيل استقالة مسؤول؛ فالجميع يفكرون في الإبقاء على امتيازاتهم وبطاناتهم الى أبد الآبدين!
وهكذا دخلنا في دوامة الكوارث والويلات، التي تكللت مؤخرا بالكارثة الحالية التي لا نعرف كيف نخرج منها؛ وكان يفترض بالسياسيين اذا كانوا حريصين على الشعب والوطن كما يقولون، ان يتحركوا على وفق هذا الأساس وان يجعلوا من المنصب مرحلة مؤقتة ومؤسسة للخدمة العامة، وبالنتيجة فانهم لن يموتوا من الجوع فسيكون وضعهم مؤمنا في كل الأحوال!
ان لنا في المثال التونسي شبيها مع الاختلاف بين طريقة التغيير في تونس، التي جرت بالشعب والتغيير لدينا الذي جرى بوساطة قوات اجنبية؛ فما الذي حدث في تونس، لكي يجزم تقرير دولي نشرته مجلة «إيكونوميست» البريطانية صدر قبل أيام، ان "تونس هي الدولة الوحيدة عربيا التي تتبنى انموذجا ديموقراطيا"، ورأى انها "استطاعت أن تتخلى عن الماضي وتتبنى نظاما أكثر انفتاحا"؟
ما يدفعنا الى المقارنة هو نتائج الانتخابات، التي تسيد فيها الإسلاميون على صناديق الاقتراع مثلما جرى عندنا، ولكن الحال جرت في البلدين بصورة مختلفة.
لقد اطاحت ثورة الشعب التونسي في كانون الثاني 2011، بالرئيس زين العابدين بن علي الذي كان يحكم البلاد منفردا طيلة 23 سنة وأجبرته على التنحي ومغادرة البلاد، واظهرت نتائج انتخابات شهر تشرين الأول من ذلك العام تصدر حركة النهضة الإسلامية ـ التي يصنفها البعض على الإسلام المتطرف ـ النتائج برصيد 89 مقعدا من 178 مقعدا وسرعان ما شكلت الحكومة برئاسة أمين عام حركة النهضة "حمادي الجبالي" مع الحزبين الآخرين الذين نالا اعلى الأصوات برغم انهما يصنفان في خانة العلمانية واليسار.
وفي شباط 2013 دعا الجبالي نفسه إلى تشكيل حكومة تكنوقراط بسبب اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد، وقال انه قرر "تشكيل حكومة تكنوقراط غير متحزبة لإنقاذ البلاد من خطر الفوضى والعنف"، و هدد بتقديم استقالته الى الرئيس التونسي، و في آذار 2013 كلف "علي العريض" القيادي في حركة النهضة الإسلامية بتشكيل حكومة جديدة وحرص فيها على ان يكون وزراء الدفاع والداخلية والخارجية والعدل والتربية والمالية ووزارات أخرى من المستقلين حصرا.
وبرغم ذلك، وبسبب احتجاجات الشباب التونسيين و بعض عمليات العنف ـ التي لا تقارن بما لدينا طبعا ـ قدم العريض في كانون الثاني 2014 استقالة حكومته لرئيس الجمهورية المنصف المرزوقي، الذي كلف الاقتصادي المستقل ووزير الصناعة في حكومة العريض "مهدي جمعة" بتشكيل حكومة تكنوقراط بالكامل، إذ أن كل أعضائها من ذوي الكفاءات بجانب أنهم مستقلون.
واللافت ان بيان حركة النهضة حول استقالة حكومة علي العريض كان في منتهى الوعي، اذ قالت في بيان لها "أن تونس قدمت درسا للعالم في التداول السلمي على السلطة و ان هذه الاستقالة عبرت عن الالتزام العميق لحركتنا بتقديم مصلحة البلاد العليا على أي مصلحة حزبية أو فئوية ضيقة وحرصها على نجاح الانتقال الديمقراطي، و يؤكد أن حركة النهضة غير متشبثة بالحكم و أنها مستعدة للتضحية من أجل مصلحة الوطن".
و شكلت الحكومة من 21 وزيرا و 7 كتاب مستشارين معتمدين لدى رئيس الحكومة .. وجميعهم مستقلون.
قد يقول قائل ان تونس ليست العراق، اذ ان لدينا تنوعا طائفا ودينيا وقوميا وبالتالي فما ينطبق عليهم لا يصح لنا، وهذا مفهوم خاطئ ، فما اكثر الدول التي تمتاز بتنوعها ومع ذلك انشأت مجتمعات سليمة، كما ان التقرير الآنف الذكر الذي اشاد بتونس امتدح أيضا بلدا متنوعا هو لبنان وعده "شبه ديموقراطي"، في حين انتقد دولا لا تمتاز بكثير من التنوع، اذ وضع مصر والسودان والجزائر وموريتانيا والمغرب في خانة "الديموقراطيات المزيفة"، أما اليمن وليبيا فقال انهما دولتان فاشلتان.
و خلاصة القول، ان الأسلوب الذي تدار به الأمور في العراق عقيم ولن ينتج شيئا إيجابيا، فالقوى السياسية المتنفذة وضعت لها نظاما انتخابيا يلبي مصالحها وليس مصالح الناس، كما ان النسبة الاعم من السياسيين والمسؤولين لم يفكروا الا بامتيازاتهم وما يجنونه من العملية السياسية، في حين انهم يدعون تمثيل مصالح ناخبيهم وطوائفهم واثنياتهم، وهذا زيف كبير، فلو كان الامر كذلك لسعوا الى رأب الصدع الذي استفحل كثيرا والقفز على المصالح الضيقة لانقاد الناس مثلما رأينا في التجربة التونسية حين استشعر سياسيوها بالخطر الداهم و افلحوا في درئه.
نحن نجد ان الأسلوب الذي يدار به الصراع السياسي في العراق، لم يزل هو ذاته منذ عشر سنوات، ويتمثل في لغة الضغينة والتشاتم ومحاولات لي الاذرع على حساب معاناة الناس التي وصلت الى مديات كبيرة من العذاب الذي لا يجدون اي امل بعده.
واذا بقيت الأمور على حالها من الجهل السياسي، وتغليب لغة الخطاب المتخلفة والتهجم المتبادل، وانعدام الشعور بالمسؤولية لدى كثير ممن وضعوا انفسهم كسياسيين؛ فاننا سنشهد أياما وسنوات اشد قتامة، وستتواصل مسيرة الهلاك العراقي في هذا الزمن الذي يبحث فيه الناس عن السكينة والاستقرار الا نحن، الذين درجنا على التعامل بلغة تقفز على الواقع وتتقاطع معه، ولن ينتج عنها الا مزيد من الموت والدمار وضياع البلد في مهاو ليس من السهولة بمكان إصلاحها وعلاجها.
|