عشوائية "الجهاد" في سوريا والعراق... توسع تنظيمي وتشظي فكري

شهد "الفكر الجهادي" مابعد اندلاع الثورة السورية الكثير من التشظي والانشقاقات التنظيمية والفكرية، فقد شهدت سوريا تفريخ اعداد كبيرة من الفصائل والالوية والتنظيمات لتمثل حالىة من عشوائيات الجهاد في سوريا. كانت ملامح الفكر السلفي "الجهادي" قبل "الثورة السورية" واضحا بزعامة تنظيم القاعدة بدون منازع. اما طالبان فكانت الى جانب القاعدة التي كانت تمثل ثنائية متداخلة تنظيميا وفكريا حتى قبول طالبان بالدخول بمفاوضات مع الولايات المتحدة والتي تم الاعلان عنها عام 2012 بعد ان كانت مفاوضات سرية. لقد انشغلت القاعدة التنظيم المركزي في افغانستان و وزيرستان والبحث عن ملاذات امنة مع تشديد الرقابة والمطاردة من قبل الولايات المتحدة، وهذا يعني بأن التنظيم المركزي لم يكون حاضرا بثقل في "الثورة السورية" في بدايتها، رغم ان جبهة النصرة كانت تعتبر الممثل للقاعدة لكن حضورها كان محدودا. النصرة وقعت مابين فكي القاعدة وتنظيم "داعش" بعدما كانت تحاول ان تكون فصيلا او تنظيما محليا، بعيدا عن عولمة "الجهاد" لكن اعلان بيعتها للقاعدة جعلها تخسر الكثر من الدعم المحلي واحراج اطراف اقليمية ومحلية داعمة ابرزها جماعة اخوان سوريا التي كانت تسيطر على المعارضة السورية السياسية. كانت النصرة قريبة من انصار الشريعة باسلوب عملها وتوجهاتها من خلال تقديم المعونات والخدمات الى السكان المحليين ونصرة السوريين في تغيير نظام الاسد اكثر من اعلان "امارة او خلافة اسلامية". لقد خرجت النصرة عن مسارها اكثر من مرة، الاولى مبايعتها القاعدة ومواجهة ابوبكر البغدادي والثانية اعلان زعيمها ابو محمد الجولاني "امارته" منتصف شهر يوليو 2014، في اعقاب اعلان ابو بكر البغدادي دولته الاسلامية بعد اجتياحه الى مدينة الموصل ومدن عراقية اخرى يوم 10 يونيو 2014.

 

النصرة تعلن "امارتها"

 

نقلت شبكة ال "سي ان ان" عن صفحات جهادية يوم 12 يوليو 2014 تسجيل منسوب لزعيم جبهة النصرة، أبومحمد الجولاني، يعلن فيها تأسيس إمارة في الشام، في خطوة تأتي بعد أيام على إعلان تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام أو ما يُعرف بـ"داعش" قيام "دولة اسلامية"ومبايعة أبوبكر البغدادي "خليفة للمسلمين" على حد تعبيره قائلا [آن الأوان لأن نقيم إمارة إسلامية على أرض الشام تطبق حدود الله عز وجل تنطبق شرعه بكل ما تقتضيه الكلمة من معنى، دون تهاون أو استهانة أو مواراة أو مجاراة (..) وتفعل كل ما يأمرنا به الله عز وجل من الصغيرة إلى الكبيرة].  اعلان الجولاني يتعارض مع بدء النصرة التي جائت امتداد الى جند الشام تحددت بدعم الشعب السوري بالتخلص من نظام الاسد اكثر من اعلان امارة او دولة اسلامية. الجولاني كشف اللثام عن وجهه مثلما فعلها ابو بكر البغدادي في مسجد نينوى من اجل الجصول على البيعة، بعد ان اصبحت النصرة في وضع لا يحسد عليه في دير الزور وخسارة بعض فصائلها بألبيعة الى "داعش".

 

الغرب يتخلى عن مسؤوليته في سوريا

 

 التنظيمات "الجهادية" تراهن على مطاولة الازمة في سوريا بل خلق وايجاد مساحات قاعدية جديدة لكي يكون للجهاد الية تتحرك على الارض مثل كرة الثلج، فما تنتهي ازمة الا تشتعل ازمة اخرى. موقف واشنطن ودول الاتحاد الاوربي إتجاه مايجري على الارض في سوريا يثير الكثير من التسائولات، ردود افعال واشنطن والاتحاد الاوربي كانت تتحدد في عودة "الجهاديين" الاجانب الى اوطانهم اما مايحدث من انتهاكات حقوق الانسان وقتل وفوضى جهادية، فلم يحتل تلك الاهمية.  اجرائات الولايات المتحدة والغرب لم تكن حلولا جذرية الى ما تشهده سوريا ثم العراق من فوضى جهادية واكتفت بايجاد فصائل تقاتل بالوكالة مرة تحت الجيش السوري الحر ومرة اخرى الجبهة الاسلامية، ومهما اختلفت التسميات، فأن واشنطن واطراف دولية فشلت بتشكيل جبهة حقيقة لمواجهة الدولة الاسلامية والنصرة والفصائل المتحالفة معها. واشنطن  اكتفت بتقديم الدعم المالي وتسليح غير نوعي  للمعارضة السورية، اما الدعم الاميركي الى العراق في اعقاب يوم 10 يونيو 2014، فان الخبراء العسكريين الذين تم ارسالهم بعدد 300، كانت مهامهم محددة بحماية السفارة الاميركية ومصالحها. وفقا لمصادر معلومات مقربة من حماية السفارة الاميركية في بغداد، اكدت بأن واشنطن سحبت اعداد من موظفيها ومنها الخاص بالقنصلية ودائرة الهجرة الى دول الجوار العراقي اولها تركيا ثم الاردن، وقامت بمراجعة اجرائاتها الامنية في السفارة وتدقيق العامليين المحليين، باصدار بطاقات ـ باجات ـ جديدة لدخول المنطقة الخضراء، جزء من اجرائاتها الاحترازية، وهي اشارة الى ان الوضع الامني في العراق لا يبعث على التفائل.

 

المشهد في العراق وسوريا، يثير الكثير من التسائولات وسط استمرار الفوضى "الجهادية" والتي  لايمكن كبحها بالعمل العسكري لوحده بل تحتاج الى جهود سياسية دولية واقليمية ومحلية، كون الارهاب لم يعد يمثل منطقة جغرافية محددة بقدر مايمثل تهديدا اقليميا ودوليا. ما يحصل الان هو زعزعة امن المنطقة  واضعاف الانظمة العربية : العراق، سوريا ولبنان فلم يبقى مصد لهذه الفوضى غير المملكة الاردنية والتي كانت وماتزال تمثل حجر الزاوية للمنطقة ومصد قوي ضد التهديدات "الجهادية". إن مايجري الان من فوضى هو استمرار الى فوضى"الربيع العربي" التي توقفت في سوريا وارتدت من مصر الى شمال افريقيا، لكن الشيء الوحيد الذي اختلف هو الاداة، فبعد ان كانت هنالك "عفوية" الثورات والانتفاضات الشعبية  تمثل ماكنة الفوضى والتدمير، الان حلت محلها "الدولة الاسلامية ـ داعش" والنصرة وتنظيمات جهادية اخرى كتب لها ان تترك لتطحن ما لم تستطيع طحنه ثورات الربيع العربي. هذه الفوضى تتماشى ايضا مع إستراتيجية "الجهاديين" التي اعلنت هذه الاعوام حتى عام 2016، اعوام زعزعة الانظمة واضعافها حتى اعلان الدولة الاسلامية وترسيخها من وجهة نظرها عام 1916. هذه الفوضى تضع الانظمة والحكومات امام تحدي قوي واختبار في مواجهة الارهاب، فالجماعات الجهادية لا توجد الا مع فراغ السلطة وغيابها. إستراتيجيات الامن القومي ذكرت بان معالجة الارهاب يحتاج الى قبضة امن ودفاع قوية بأعتباره اجراء سريع لكن يبقى معالجة الارهاب الحقيقية وللمستقبل البعيد بحزمة من اجرائات متكاملة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية وحماية مصادر الثروة. تجربة مصر في مواجهة الارهاب تبقى تجربة رائدة يجدر بالعراق ودول اخرى الاستفادة منها.

 

الجهاد توسع تنظيمي وتشظي فكري

 

تشهد المنطقة توسع في عمليات تنظيمات القاعدة وفروعها في منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا افريقيا. ليصبح العالم الان اكثر خطر واقل امنا من عام 1989، و تاسيس تنظيم القاعدة. ألعمليات القاعدية توسعت خارطتها ليشهد العراق، وسوريا واليمن وافغانستان والصومال وغرب افريقيا وشمال المغرب الاسلامي ودول اخرى وتنفذ عمليات ارهاب وقتل تحت ايدلوجية ومحركات قاعدية التي اصبحت الان اكثر عنفا وقتلا من جيلها الاول. هذه الخارطة بدأت تتسع مساحته اكثر بالتوازي مع التشظي الفكري والايدلوحي للقاعدة.

اما في سوريا فيتوزع الجهاديون مابين تنظيمات "جهادية" ترتبط مرجعيتها بالقاعدة ابرزها النصرة والجبهة الاسلامية المدعومة من قبل السعودية والولايات المتحدة وتشكيلات غير اسلاموية عسكرية تتخذ جنوب سوريا مركزا لها. التنظيمات السلفية "الجهادية" تشترك في ايدلوجية واحدة لكنها تختلف تنظيميا، اما البيعة فهنالك بيعة عامة وبيعة خاصة بالجهاد، اي تنتهي مع إنتهاء مهمة القتال داخل التنظيم . المجموعات "الجهادية "غير القاعدية شكلت نهاية شهر سبتمبر 2013 جبهة إسلامية على لسان زعيمها الشيخ زهران، لتخرج تماما من الجيش السوري الحر، وهو الان في موقف لايحسد عليه لأنه يقاتل على جبهتين النظام والأخرى "الجهاديين ".

 

إن تجارب حروب ألقاعدة في افغانستان والعراق قد لاتشبه تجربة "الجهاديين " في سوريا بعد ان فقدت القاعدة الكثير من قدرتها التنظيمية. فالمشهد الذي يجري في سوريا يختلف عما كان في كابول وبغداد تماما هو اكثر واسرع حركة على الارض لكنه اقل نتاجا فكريا وعقائديا. ألمشهد في بغداد وكابول كان يقوم تحت راية تنظيمية واحدة عكس مايجري في سوريا. القاعدة ـ  التنظيم المركزي ـ بدئت تختفي من المشهد و الميدان "الجهادي وصعدت  تنظيمات "جهادية" متعددة. وما تشهده  سوريا ألان من  تدفق "الجهاديين" وهجرة عكسية للخلايا الجهادية يلقي بظلاله على خارطة الحركات "الجهادية" في ألمنطقة  لتكون أكثر تجربة ومرونة وأكثر دموية.

الارهاب اليوم لم يعد مجموعات مسلحة خارجة عن القانون بقدرما اصبح عمل منظم يقوم على المعلومات والبيانات والخبرات، التي اصبحت تفوق امكانيات بعض الدول. التمويل والتدريب والسلاح اصبح متوفرا لهذه التنظيمات لكي ترتقي في مواجهاتها الى قدرات القوات النظامية، وباتت معروفة في شراستها واعتمادها عنصر المفاجاة والصدمة والرعب في عملياتها العسكرية، لتتحول الى تحدي خطير اما تشكيلات القوات النظامية لتحول المواجهة الى حرب استنزاف وربما حرب عصابات لم تعهدها القوات النظامية.

رغم ما حققه "الجهاديون" من توسع تنظيميا وتمدد على الارض فأن هذا "الفكر" اثبت فشله في تعامله مع مع السكان المحليين التي تقع تحت سيطرته، وكثيرا ما لقي برفض خلافته حتى من اقرب الفصائل والتنظيمات، لتبرهن بأن ما يعلن يبقى في اطار الخلافة الافتراضية.

 

جاسم محمد: باحث في قضايا الإرهاب والإستخبارات