الفدرالية هي توحيد للعراق و تقسيم لسلطة المالكي المتفرّد

من المعلوم بأن التغيير هو المطلب عند بلوغ الأزمات و هو المسوغ للأعمال والسياسات و هو أكثر المفردات تداولاً في الخطب والتصريحات. التغيير تجربة تاريخية ينخرط فيها المجتمع بالاشتغال علی نفسه وتحويل بنيته، أساسه علاقة نقدية مع الذات تتيح للفرد عبر درس الظروف و تحليل الشروط و إجتياز الحدود بمنطق السَّبق والتوسع وإتقان لغة الخلق والإبتكار، لكي يتغير عما هو عليه، في الأفكار والأقوال والأعمال. من غير ذلك تتحول إرادة التغيير الی شعار يؤول إلی مضاعفة العجز و مفاقمة المشكلات.  
 فقبل سقوط الدكتاتورية البعثية عام 2003 كان إقليم كوردستان يتمتع بمؤهلات عزّزت لديه إيمانه بالفدرالية کحل للمرحلة السياسية القادمة في العراق وتمكن من إثبات ذلك علی أرض الواقع. فالكوردستانيون لعبوا دوراً فعالاً في بناء جمهورية العراق وأرادوا فيها نظام حكم جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي اتحادي، متكون من عاصمة و أقاليم و محافظات لامركزية و إدارات محلية. وقد تم الإقرار في الدستور بالإعتراف بإقليم كوردستان و سلطاته القائمة بإقليم اتحادي، لكن هناك من يحتل اليوم دور سيادي في السلطة الاتحادية يرفض لأسباب طائفية  أو ديماغوجية و شعاراتية أو دعماً لمصالح إقليمية أو عروبية هذه الفكرة بالمطلق في الوسط والجنوب، راداً ذلك الی أن إقامة الأقاليم الإتحادية لا يعني سوی تجزئة الوحدة العراقية وهذا قصور في الفهم والإستيعاب لمنطق الفدرالية، الذي هو في الأساس مشروع صيانة وحدة العراق و ليس تقسيمه. وجذر هذه الفلسفة يعود الی فكرة النظام اللامركزي الذي لا يسمح بتكرار الإنقلابات العسكرية الدموية و تكرار الديكتاتوريات الظالمة.
لا يختلف إثنان في تشخيص المرحلة الحرجة التي يمر بها العراق والمخاطر الكبيرة التي تكاد أن تعصف بالبلاد كنتيجة لتبني الاساليب التفردية كمشروع في ادارة السلطة في العراق ولإعادة عقارب الساعة للوراء.
إن عدم الرجوع والإطلاع علی تجارب الفدرالية و فلسفتها التطبيقية في الأنظمة الفدرالية المتواجدة في العالم و التنقيب عن الأصول التي قامت عليها و الوقوف بشكل سلبي أمام العمل من أجل نشر رسالة الفدرالية و ثقافة اللاعنف و التوعية الدستورية و عدم طرح جدوی التفكير الفدرالي هو سعي في الخفاء والعلن لإعادة الصورة المشوهة للعراق تحت ظل الزعيم الأوحد و القائد الأسطوري الحامي للبوابة الشرقية من الوطن الكبير و النية المستقبلية في حرمان الشعب العراقي من حقه في تقرير مصيره بمحض إرادته ووعيه.
و لكسر الدائرة الخانقة التي يحبسنا فيها دعاة الوحدة المزورة و المنظرون لخصوصية العراقية و لإنهاء العقل التسلطي و سياسة التهميش و الإقصاء والتمييز الطائفي و حل الأزمات المستمرة و وقف نزيف الدم و الحد من الهدر الكبير للثروات المالية و تحقيق الأمن والإستقرار في فضاء التعايش السلمي تحت ظل حكومة اتحادية فدرالية لا بد من البدء ببناء فدراليات في القسم العربي من العراق كما يسطّره الدستور. السيد نوري المالكي، الذي يقف ضد هذا المشروع البنيوي والحضاري ليتقدم نحو إجهاض الشروط التوليدية للفلسفة الفدرالية، يرتد بموقفه هذا نحو الماضي و لا يريد أن يتوثب نحو المستقبل، بل يريد ككاهن للفكر الفرداني و حارس لعسكرة المركزية و فقيه للمنطق الأصولي أن يحلّق في دائرة الوهم السلطوي ليحول خطاب الديمقراطية والتعددية الی خطاب العقيدة والسلطة.
 فعدم الإعتراف بمذهب التعددية السياسية و الثقافية  و عدم التهيء لاستقبال ‌‌ألحان غير مسموعة يبرهن مدی إيمانه بالأونولجيا (العلم بالواحد) و منطق الاستلاب، الذي يشد داعية وحدة العراق إلی الوراء، علی ما يفعل أولئك الذين يريدون العودة بالعراق الی ماقبل سقوط الطاغية، غير مهتم بالبديهية التي تقول، بأن العقل كأي شيء آخر يخضع لتحولات الزمن.
من يحسن قراءة الوقائع والتشكيلات الخطابية يعرف بأن ممارسة الجدل المتشنج باسم الماضي الموهوم والمستقبل المزعوم، دفاعاً عن الأصنام الفكرية و بعيداً عن منطق العقل و العلمية و الإستمرار في فرض قيود الإرهاب الفكري لا يمكن أن تؤدي الی خلق فضاء للحريات و أخذ تطلعات الشعب بجدية و إحترام إرادته بل تدفع العراق إلى مسارات أكثر تعقيداً وخطورة. أما النظام في العراق فيقاد إلى مخاطر غير محسوبة. وإن هدر الإنتاج النفطي والثروة الطبيعية علی التسليح العسكري و الاجهزة المخابراتية بدل صرفه في البناء المدني و العلمي ببعد استراتيجي و اجتماعي معاصر، بدليل إن هذه الموارد ملك لجميع أفراد المجتمع و عامل توحيد المكونات المختلفة في العراق، يزيد من شكوكنا في الحل القريب للأزمة الحالية، التي تحمل في جسمها، في حالة نجاح السيد المالكي من إمتحان سحب الثقة منه، جرثومة تبديل الكيانات المعارضة لحكم الفرد والاصولية التراجعية الى عبيد في ديموقراطية شكلية، وهذا ما لايمكن قبوله في عصر العولمة و تحولات الاقتصاد الإلكتروني و الوسائط والمجتمع الإعلامي. فالأيام القادمة تنذر بكثير من المفاجآت، وبينها حرب الملفات. ولكي ننخرط نحن الكوردستانيون في حاضرنا الراهن و نساهم بشكل فاعل في صناعة عراق نموذجي، علينا دراسة ظرفنا الوجودي علی نحو يتيح لنا أن نستبق المستقبل الذي يهجم و يباغت. فنفي الواقع لوحده أو المصادقة عليه‌ لا يكفي، فلنشتغل بعقل تركيبي محتك بالحضارة الحديثة علی معطيات وجودنا، من أجل تحويلها إلی إنجازات علی صعيد العراق والمنطقة أو من أجل التوليف والتركيب و خلق مجالات جديدة للوصل والفصل، أو للإختراق التجاوز.
وختاماً: لا شي أدلّ علی المالكي مما نطق به في خطبه و إجتماعاته السرية أو في مقابلاته التلفزيونية.   وقد قيلَ المرءُ ما يحسنهُ.