المكان الجميل الوحيد الذي يجد العراقيون راحتهم في زيارته هو المقبرة . فهم يلثمون الشواهد كأنهم يلثمون خدود الحبيب ، ويبحثون بين القبور عن فردوسهم المفقود . انتابني حزن غريب وأنا أسمع صاحبي يحدثني عن قبر مالك ، بنبرة أسىً يغلبها الندم ، كمن يحبس دمعة في عينيه فيختنق . وجدته يأخذني في لحظات عاطفية مؤثرة إلى مرثية مشهورة لشاعر قديم . قالها متمّم بن نويرة . يومها كان متمّم يجلس عند كل شاهدة قبر ينتحب ويبكي ، اعتقاداً منه أن جميع قبور الأرض نسخة من قبر أخيه مالك . إنها صرختك الممزقة بالعذاب الإنساني حين تريد أن تزور قبور أهلك في أيام الأعياد ، فتكتشف أن وطناً ينام على خمس آلاف سنة من الحضارة صار ينام على خمس آلاف مقبرة . أينما ذهبت تشعر أن قلبك مغلول ، وصوتك مخنوق ، وصدرك يضيق ، وثيابك منقوعة بالدم . تركض مذعوراً بين الأشلاء والعظام . ليست هناك صورة واحدة تبهجك . تمدّد قبر مالك فأنجب مقابر مفتوحة إلى يوم الدين ، وأنت تسأل : ماذا فعلت بنا الأيام ، وماذا فعلناه نحن بأنفسنا ؟. كان صاحبي يستبدّ به الشوق . يؤرقه الغياب . لم يخطر في باله أنه لا يتمكن من زيارة بلدته الشاربة من نهر الفرات عطشاً ، أو يتنفس نسمة من نسماتها . تأخر عن موعده كثيراً . ماذا يستطيع أن يفعل بعدما قطعوا جميع الشرايين الموصلة إلى القلب ؟. قبل سنوات كان بإمكانك أن تزور أبعد نقطة عراقية في الخارطة من دون هاجس الخوف ، أن يستوقفك سائل عن هويتك المذهبية واسم أبيك وجدك ، وكان في مقدورك أن تتحسّس رأسك فتجده ثابتاً على كتفك لم يسقط بعد . تحدثنا عن أوطان تذبل كما تذبل الزهور . عن زهرة العمر الشقيّ المهدور . عن أصدقاء تركناهم في السنة الفائتة يمطروننا بأحلامهم ثم صاروا مجرد صور معلقة على الحيطان . كانوا متعبين مثل غروب برتقاليّ صغير فبكروا في الرحيل . تحدثنا عن الحنين الذائب إلى شجرة التوت الصابرة في ساحة البيت المهجور . كلما حاصرتنا الذكريات جلسنا ننفض الغبار عن أشيائنا الضائعة . نحن المنسيّين من أبناء هذا الجيل الموزعين بين الجنازات والكآبات على حبل ممدود من المراثي ، ضجرنا من الجلوس قبالة الضفة الأخرى من الشوق . ضاقت بنا المدن الشاسعة . نمسك نجمة فتهرب نجمة . نقفز من غيمة عابرة إلى غيمة عابرة . يستهوينا البوح فنكتب ونمحو . تعبنا من صيف كئيب وخريف غاضب وربيع موحش وشتاء حزين . تعبنا من حكايات التذكر والتحسّر والتخيّل والتوهم ، ومن مناديل الحنين وأساليب الوداع والقهر والانتظار والبكاء على الديار والتلفت إلى طلول لا تردّ على سائل ، ولا تشفي غليلاً لمشتاق . نريد أن نهرب من أيام لا ترحم ، ومن عمر تركناه يتيماً في الروزنامات ، وأحلام لا زالت تنام في الدفاتر مثلما تنام العاشقة . ستبقى المنازل في انتظار أصحابها الغائبين . ستحكي الشبابيك الخشبية أسرار الفراشات والمخيّلات والعصافير الوافدة ، وتحتفظ لنا ببقايا كل شيء . ستولد الذكريات من عطور كثيرة . شكراً لعاشق حديثة الصديق الأديب حسان ثابت نعمان فقد أنابني اليوم في كتابة هذا المقال ، بخواطره الشجيّة القادمة من بعيد . بنفحة سمرة من نواحينا . مثل عطر مسك طفحت به الريح . إن الشجا يبعث الشجا والشجن .
|