من أطاح بمدحت المحمود؟

دون استباق لنتائج الإطاحة برئيس مجلس القضاء الأعلى مدحت المحمود.. ينبغي الانتباه جيدا إلى أننا أمضينا السنتين الأخيرتين بأيامهما ولياليهما في متابعة دراما تفتقر الى الدهشة والمتعة، حيث عشنا فصولا من الهزل مع قرارات  وخطوات كان القضاء يصر فيها على نصرة السلطة التنفيذية الممثلة في السيد نوري المالكي رافعاً شعار "انصر مكتب رئيس الوزراء حتى وان كان ظالما ومتجاوزا على القانون"،  فأصبحت قرارات رئيس الوزراء وبفضل القضاء عنوانا للعب على القانون، وجعلت من نواب لا يفقهون في القراءة الخلدونية خبراء في الاقتصاد يطردون خبيرا بوزن  سنان الشبيبي من البنك المركزي،  وقبل ذلك قدمت  هذه العدالة نموذجا سيئا لحياد ونزاهة القضاء حين خرج علينا ناطقها الرسمي عبد الستار البيرقدار ليخبرنا بانه يحتفظ بملفات "جنسية" لاحد النواب. 

إن التجاوز على سلطة مجلس القضاء الاعلى مرفوض ومدان ونقف جميعا ضده، ومع  ان القضاء  ومنذ سنوات  احب لعبة الاشتباك مع السياسة، الا ان ذلك لا يمنع من تأمل ظروف وملابسات الاطاحة بالقاضي مدحت المحمود، ولماذا تم فتح ملف اجتثاثه في هذه الايام بالذات.. خصوصا ان هذا القرار يأتي عقب معارك خاضها القضاء لمصلحة رئيس الوزراء.. ناهيك عن تصاعد منسوب التوقعات من ان السيد مدحت المحمود سيقف الى جانب قرار يلغي ما صوت عليه مجلس النواب في تحديد ولايات الرئاسات الثلاث.. ويلفت النظر أيضا أن فتح ملف المحمود يأتي في فترة تجري فيها عملية تقديم تنازلات من قبل المالكي وأيضا مراجعة يجريها التحالف الوطني للاسباب التي ادت الى هذا الاحتقان السياسي، والذي كان للسلطة القضائية دور كبير في تصعيده، من خلال الاستعراضات الاعلامية التي رافقت صدور مذكرات إلقاء القبض، والتي كان يفترض ان تتم بشكل بعيد عن المماحكات والمنازلات السياسية.

و مرة أخرى: الاعتداء على استقلالية القضاء عمل مرفوض في كل الظروف والأحوال، بالقدر ذاته الذي ندين به كل محاولات صناعة سلطة تنفيذية مستبدة، وافتعال قوانين وإجراءات تمكن البعض من السيطرة على مقدرات البلاد.

لعل الحقيقة  التي يجب ان نتوقف عندها جميعنا ان السيد رئيس مجلس القضاء أخذ على نفسه ألا يغضب أحدا في السلطة التنفيذية، ولكنه بالمقابل لم يقف إلى جانب السلطة التشريعية في الكثير من القرارات التي تتعلق باستجواب المسؤولين ومحاسبتهم.. لكن ابرز تناقضات السيد المحمود موقفه من قضية البنك المركزي.. وكيف وجدنا السلطة القضائية جسورة وهصورة وهي تصدر مذكرات إلقاء القبض الواحدة تلو الأخرى على عدد من خيرة كفاءات العراق وخبراته.. وكيف ان هذه السلطة نفسها نام ضميرها وشبع نوما حين اعتقل عدد من متظاهري شباط وعذبوا دون ان يتحرك القضاء، ولو ببيان خجول يدين ما ارتكبته القوات الأمنية.. ولا ننسى كيف سعى القضاء من تمكين مكتب رئيس الوزراء من الهيئات المستقلة، ولعل قرار مجلس القضاء الشهير باعتبار هذه الهيئات جزءا من مكتب المالكي يعد نقطة سوداء في تاريخ السلطة القضائية العراقية.  

ولعل ما يثير الأسى في النفوس ان القاضي مدحت المحمود صاحب المقام والمنصب الرفيعين ما كان له أن يصبح جزءا من الصراع السياسي على المكاسب والمناصب،  فقد كان من الممكن أن يرسل رسائل واضحة لكل الأطراف من ان القضاء حارس للدستور والعدالة في البلاد، أو يثبت للسياسيين ان القضاء  يؤتى اليه ولايأتي زاحفا الى المسؤولين.. لأنه يمثل امل العراقيين في مجتمع امن مستقر، ولااريد اذكر السيد مدحت المحمود وهو  العالم بشؤون القضاء، ما الذي فعله قضاة مصر حين تجاوز الرئيس مرسي على صلاحياته الدستورية.. كما ان القاضي المحمود اعلم مني بموقف القاضي الفقيه ابو حنيفة الذي تحاصره قوات الحكومة  تحت سمع وبصر القضاء، وكيف رفض تولي القضاء تحت سلطة ابو جعفر المنصور لانه رأى فيه ظالما مستبدا فقال في وجهه كلمته الشهيرة: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه.

كانت الناس تتوقع أن يساهم القضاء في مساعدتهم على دخول المستقبل، وبناء دولة تقوم على أساس حق المواطنة لا حق الساسة، وعلى العدالة والمساواة لا على توزيع الغنائم بين الأصحاب والأحباب، لكن القضاء خيب أملهم لان السيد المحمود اصر على ان يلعب دور الكومبارس الحكومي في مسرحيات ساذجة مثل مذكرات القاء القبض والملفات التي يخبئها المالكي في درج مكتبه.