ماذا لو كنت بعثيا أو متزلفا؟

اليوم اتكلم بلغة المكلوم الذي ذاق المرارات لأكثر من أربعين عاما أو يزيد ولسان حالي يقول ماذا لو كنت بعثيا، أو متزلفا، أو من الباحثين عن السحت الحرام، أو من أبواق السلطة وكتابها المرائين؟! هل سأتعرض للمساءلة، ومن ارتكب الفظاعات والتفريط بالمال العام، وشتى أنواع المثالب، يتمتعون بذات الامتيازات التي كانوا يرتعون بها، وهم ممسكون بكرباج الجلاد أيام حكم الطاغية، لا بل اليوم هم من يحظى برعاية من ضحاياهم، وكأن شيئا لم يكن وهم الآن، وكما أنصفتهم السياسات العرجاء، في بحبوحة لم يكونوا ليحلموا بها، فكانت الاستفادة والحظوة والتمتع بخيرات البلد وتجنيبهم من المساءلة، وكأنك يا أبو زيت ما غزيت.
أتكلم الآن بلغة كل المتضررين من سياسات البعث الكسيحة، الظالمة، المجرمة، الفاشية، الحاقدة حتى على نفسها، وأعتقد أن ملايين الضحايا يصنفون في خانتي أو أبعد بكثير من الحيف الذي طالهم، كضحايا لذلك النظام الفاسد، فماذا ربحنا بعد السنوات الطويلة الموغلة في العذابات والنفي والخوف والتشرد والموت المجاني وعفريت التصفيات يتحينك لحظة بلحظة، حتى ونحن على بعد آلاف الأميال، لننام في هلع دائم، ونستيقظ ونحن في كامل صحونا على موت قادم، أن القاتل بالأمس ممن ارتكب أفظع الجرائم، بساديتها وبشعاعتها، يخرج من جحره معززا مكرما وعلى أيدي ضحاياه، لنعيش شهر عسل فريد من نوعه، بين الجلاد وضحيته، فأية فنتازيا نحن نعيشها وكأنها طلاسم من العسير تفكيك مفرداتها، لنظل نحن المتضررين ، نضرب أخماسنا بأسداسنا دون أن نعرف ماذا يحصل وكيف نفهم هذا التشابك ودون أن يغمض لنا جفن للتعامل مع الحقيقة المرة. لتستمر عذاباتنا منذ جاء مجرمو البعث للسلطة في نهاية الستينات حتى لحظة تدوين هذا الوجع القاتل.
لماذا اذن كل تلك التضحيات التي باتت على أيدي ضحايا الأمس من السياسيين مجانية، لعدم التفاتة سياسيي الوضع الاعرج الجديد لضحايا البعث وما قدموه من دماء وعذابات ومرارات لا زالت عالقة بتفاصيل حياتهم؟
بعد أكثر من أربع وثلاثين عاما من النفي القسري، استبشرنا نحن المعذبين، داخل وخارج الوطن الذبيح ( كان الله في عونه) خيرا وامتلأنا أملا، بأن عصر الانعتاق قد جاء، لنصحو على الحقيقة المرة، ودون أن نستطرد أكثر، أسوق لكم ما حدث لي مع مؤسسات الدولة خلال زيارتي الأخيرة، شهر مايس 2012، لتتبين لكم الصورة وتكون أحكامكم منصفة وعادلة، لأننا بأمس الحاجة لمن يقول لنا، أنتم محقون.
في زيارتي الأخيرة للعراق، أشار عليّ الأصدقاء بمراجعة الدوائر المختصة بشؤون المغتربين والمهاجرين، لرفع مظلوميتي واستعادة حقوقي المستلبة زمن البعث الصدامي، فذهبت لوزارة الهجرة والمهجرين، وقفت في الطابور الطويل أمام أحد الشبابيك حتى جاء دوري بعد انتظار ممل، ودار حديث بيني وبين موظف شاب بعمر ولدي، في نهاية عقده الثالث كما يبدو، واليكم نص الحوار، بعد تبادل التحايا:
الموظف: ما قضيتك يا أستاذ؟
الكاتب: أنا مواطن عراقي خرجت من العراق عام 1977، قسريا بسبب بداية تبعيث المجتمع العراقي.
الموظف: وأين كنت:‎؟
الكاتب: في المغرب لمدة 34 عاما؟
الموظف: مباشرة بعد مغادرتك العراق؟
الكاتب: لا... ذهبت الى الجزائر وعملت بها لمدة عام في التدريس.
الموظف: وماذا كنت تدرس؟
الكاتب: تخصصي اللغة الانجليزية.
الموظف: ومن ثم؟
الكاتب: غادرت الجزائر متوجها للمغرب، عام 1978 ومنذ ذلك الوقت ولحد اللحظة أنا مقيم في المعرب.
الموظف: وهل حصلت على الجنسية المغربية؟
الكاتب: كلا، لا زلت أحمل الجواز العراقي.
الموظف: وماذا تريد الآن؟
الكاتب: حصولي على حقوقي أسوة بأخوتي المغتربين.
الموظف: عليك أن تفتح ملفا لدينا، ومن ثم تتابع بقية الإجراءات.
الكاتب: وما المطلوب مني؟
الموظف: وثائقك التي تثبت هويتك.
الكاتب: (يمده بالجنسية وشهادة الجنسية وبطاقة الاقامة ووثيقة الزواج مصادق عليها مع جنسيتي الأولاد وجواز السفر).
الموظف: (تصفح الوثائق وتيقن من سلامتها وصحتها، وحين دقق جواز سفري، جمع كل شئ بسرعة وأعادها لي، وعدم الرضى باد عليه...)
الكاتب: ماذا يا أستاذ؟
الموظف: أين جواز سفرك الأول الذي غادرت به العراق؟
الكاتب: سحبته مني السفارة العراقية في الرباط، وبقيت بدون جواز سفر، حتى سقوط النظام وهذا هو جوازي نوع (س).
الموظف: وما أدراني بادعائك هذا؟
الكاتب: ومن أين لي بالجواز القديم هل تريد شهود، أو وثائق عملي قبل المغادرة أو أي شى آخر؟
الموظف: لا... نحتاج الجواز القديم.
الكاتب: من أين آتيك به، بعد مرور هذه الحقبة الزمنية الطويلة؟ ألا ترى أن ما تطلبه هو شرط تعجيزي؟ وهل يعقل أن تعاملوننا بهذا الجفاء ونكران حقوقنا بعد كل سنوات الغربة؟ فماذا أستفدنا من التغيير إن لم نعد اعتبارنا الذي مسخه البعثيون، باستعادة حقوقنا، الاعتراف الحقيقي بتضحياتنا؟
الموظف: (بطريقة هستيرية، يغلق الشباك) اسمح لي يا أستاذ انتهت المقابلة.
يتضح أن الموظف قد أزعجته (الاساءة للبعثيين)، فلعله كان من فدائيي صدام ومن صبيته الأوفياء.
كان هذا السلوك صدمة كبيرة وطامة، ليس من البساطة قبولها أو حتى تصورها...
ليعلم القارئ أن لا خير يرجى والعراق بهذه الفوضى وهذا الاشتباك غير المفهوم بهكذا أوضاع بكل حيثياتها المريرة...
هذا ما حصل معي في وزارة الهجرة والمهجرين، بالتمام والكمال، فعدت أدراجي من حيث أتيت، حزمت حقائبي ورجعت للمغرب خائبا ومضاما، تاركا العراق، كما غادرته عام 1977، لعبث البعثيين، وصولات المتزلفين من المقربين لأحزاب السلطة، ولكل من هب ودب، بذات الدوامة التي لا نهاية لها، متأبطا عزتي وكرامتي اللتين ما فرطت بهما يوما لأنهما رأسمالي الحقيقي، وثروتي الغالية، وكينونتي الأسمى، شأن كل العراقيين الأنقياء...

جواد وادي

كاتب وشاعر عراقي مقيم في المغرب