لماذا يهدمون المراقد والأضرحة والرموز الحضارية ؟! |
لابد للباحثين والمفكرين المسلمين أن لا يعتبروا مأساة هدم قبور الأئمة الأطهار في بقيع الغرقد مأساة شيعية حسب ، فهي تصح بهكذا اعتبار ، لو طالت المراقد المقدسة لآل بيت رسول الله (ص) من ولد علي وفاطمة (ع) ، عندها يصح أن تكون مأساة طائفية شيعية سنية حسب ، ناجمة عن خلافات تاريخية ومذهبية في سفر الأمّة الإسلامية ، والواقع ؛ إن تلك الجريمة لم تكن جريمة هدم قبور الأئمة الأطهار من آل بيت علي (ع) هي المأساة حسب ،فلو كانت الجريمة اقترفت بحق أتباع علي (ع) وأولاده وآل بيته فقط ، لقلنا إنه حقد تاريخي ومذهبي موجه ضد منهج وأتباع منهج علي (ع)، لكن؛ الجريمة توسعت إلى أبعد من هذا الشعور المحدود ، بأن طالت جميع المراقد الإسلامية المقدسة ، ليس في مقبرة البقيع وحدها، بل في خارج منطقة البقيع .. في المدينة المنورة كافة، وفي مكة المكرمة ، وفي جدة ، وفي مناطق أخرى من بقاع العالم ، ولازال ذلك السلوك الإجرامي الأسود مستمراً حتى الساعة ، على أيدي المتشبهين بهم في زمننا الحاضر ، من الذين طالوا مراقد الصحابة والأولياء في الشام ، كقبر الصحابي الجليل حجر بن عدي(رض) ، وتعدى هذا التطاول ليطال بإجرامه حتى قبور الأنبياء وآل بيتهم في كل مكان من العالم . من هنا ؛ لابد من تعالي صرخة غضب إسلامية تاريخية من مراكز القرارات في العالم الإسلامي، لأجل شجب وتوقف ومقاضاة السلوك الإجرامي الذي تطاول على المقدسات الإسلامية، والتي هي ليست حصة المسلمين السنة أو الشيعة حسب ، بل هي آثار مدرجة ضمن التراث العالمي الإنساني ، المساس بها يعني المساس بتاريخ الإنسانية كافة ، واحترامها يعني احترام المعالم الدينية الإسلامية والإنسانية، في كل زمان ، وأي مكان من العالم .فإخفاء المعالم الواضحة لقبر أبناء رسول الله (ص) وزوجاته أمهات المؤمنين (رض) ، والقبور المباركة لآل بيته (ع) وصحابته الأجلاء (رض) ، والمعالم التاريخية للوقائع والأحداث الإسلامية التاريخية، لا تعد شأناً شيعياً حسب ، بل؛ هي شأن المسلمين والناس كافة .. الذين تركوا تاريخاً أو معلماً أو أثراً تاريخياً وثق سفراً من أسفارهم على الأرض . من هنا ؛ لنأخذ (البقيع) أنموذجاً أولاً لهذه الممارسة ، حيث سكتت الأمة الإسلامية على جريمة الوهابيين فيها ، فطالت المسلمين والناس أجمعين ، بعد أن طالت الشيعة المسلمين. ((البقيع)) في الأصل ؛ قطعة أرض فيها أشجار العوسج في المدينة المنورة ، وأول من دفن فيها(أسعد بن زرارة الأنصاري) ثم دفن بعده الصحابي الجليل (عثمان بن مظعون)، بعد ذلك دفن فيها (إبراهيم) ابن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ، ولما رأى المسلمون أن الرسول صلى الله عليه وآله قد دفن ابنه فيها اتخذوها مقبرة لهم ، حيث قاموا بقطع الأشجار وإعداد الأرض لذلك. وبعد أن أصبحت البقيع مقبرة أهل المدينة ، دفن فيها الكثير ممن كانت لهم اليد الطولى في تأسيس الحضارة الإسلامية والجهاد في سبيل الله .. سواء مع الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله أو في أزمنة لاحقه بعده ، وبخاصة وأن الكثير من أهل بيت النبوة صلوات الله عليهم قد دفنوا فيها ، لا سيّما السيدة الجليلة (فاطمة الزهراء) سلام الله عليها (قبرها مجهول) ،وكذلك أربعه من الأئمة المعصومين عليهم السلام ؛ وهم (الإمام الحسن المجتبى) و(الإمام زين العابدين) و(الإمام الباقر) و(الإمام الصادق) عليهم السلام ، إضافة إلى (محمد بن الحنفية) و(الحسن بن الحسن) و(عقيل بن أبي طالب) و(عبد الله بن جعفرالطيّار) و(إسماعيل بن الإمام الصادق) و(محسن السقط بن أمير المؤمنين) عليهم السلام و(محمد بن زيد) و(الحسن بن جعفر) و(محمد بن النفس الزكية) وبعض زوجات الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وعماته ومرضعته (حليمة السعدية)(رض). لذا؛ أصبح البقيع من أهم البقع المباركة التي نستطيع من خلالها دراسة التاريخ الإسلامي وحضارته العريقة ، فكل شخصية رقدت فيه جسّدت لنا جانباَ مهماً من جوانب بناء الحضارة الإسلامية ، بل إنَّ بعض الشخصيات كان لها الدور الرئيسِ في زمنه ، فكان فلك الزمان يتخذه قطبا ، والمسلمون إليه ينجذبون ، ومنه يصدرون ، وحوله يطوفون ومن علومه يغترفون ، فكانوا بحق مجددي الإسلام وحافظيه من الضياع ، وببركتهم اتسع الإسلام وعظم ، حتى أصبح أقوى وأعظم فكر إنساني في العالم. البقيع يمثل جانباً من مظلومية العترة الطاهرة ؛ بل هو صرخة الدهر بوجه الظالمين، فلا عجب عندما تقف أمام تلك البقعة الطاهرة وتتأمل في موقعها الجغرافي ، لابد وأنك ستغوص في أعماق التأريخ لتتذكر وقائع ألمت بأهل البيت سلام الله عليهم ، لاسيما الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام ومظلوميتها وغصب حقها، كذلك الإمام الحسن المجتبى سلام الله عليه ، فعندما تستذكره فلا شك ستتراءى لك واقعة الدفن وما صاحبها من أحداث. وبالتأكيد سوف ينتقل ذهنك تلقائياً وأنت تقف أمام ضريح الإمام السجاد زين العابدين عليه السلام إلى واقعه الطف الأليمة ، فالحقبة الزمنية بعد الإمام الحسن عليه السلام كان يدور فلكها حول سيد الشهداء عليه السلام، إلا أنك لا تجد له قبراً في البقيع ، وكأن البقيع يناشدكَ بها ويستفهمك عنها، وبخاصة وأن حلقاته بعد الإمام السجاد متناسبة ومتصلة ، فالإمام الباقر ثم الصادق عليهم السلام وما عانوه من ظلم الحكام الأمويين،حتى إذا ما وقفت عنده للزيارة تراءت لك تلك القصة الحزينة التي عاشها الإمام الكاظم عليه السلام وإبعاده عن المدينة المنورة إلى بغداد حيث استشهاده سلام الله عليه في السجون والطوامير الظالمة على ايدي الحكام العباسيين. إذن؛ فبقيع الغرقد هو التأريخ الناطق والمرآة الناصعة لظليمة التأريخ الإسلامي وتدّرج حقيقي للحضارة الإسلامية. والبقيع منذ سنواته الأولى كان يتحدى الطغاة والظالمين ، ويعتبرونه تجمع للثائرين والمجاهدين . وهذه لمحة من مكانته في عقول الظلمة ، وبخاصة أبو الظالمين ورأس الطغاة أبو سفيان ؛ ففي حديث المناشدة والمحاجة بين الإمام الحسن المجتبى عليه السلام ومعاوية بن أبي سفيان، قال الإمام الحسن عليه السلام: (ثم أنشدكم بالله هل تعلمون إن أبا سفيان دخل على عثمان حين بويع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا ابن أخي هل علينا من عين فقال: لا ، فقال أبو سفيان: تداولوا الخلافة فتيان بني أميه ، فو الذي نفس أبي سفيان بيده ما من جنه ولا نار. وأنشدكم بالله أتعلمون إن أبا سفيان اخذ بيد الحسين عليه السلام حين بويع عثمان وقال يا ابن أخي اخرج معي إلى بقيع الغرقد ، فخرج حتى إذا توسط القبور اجتره فصاح بأعلى صوته: يا أهل القبور الذي كنتم تقاتلونا عليه صار بأيدينا وانتم رميم. فقال الحسين بن علي عليه السلام قبّح الله شيبتك وقبح وجهك ثم نتر يده وتركه، فلولا النعمان بن بشير أخذ بيده ورده إلى المدينة لهلك. فالبقيع كان يمثل في نظر أبي سفيان معقل المجاهدين الإسلاميين ، فهو يمثل الجانب الآخر في معركة المصير التي خاضها أبو سفيان ضد الإسلام، ولا عجب من ذلك ؛ فالرسول العظيم صلى الله عليه وآله كان دائماً يخاطب أهل البقيع بعبارة (دار قوم مؤمنين) ، وكان صلى الله عليه وآله يزور البقيع ويسلم على أهله ويقول (السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون، وإنا إنشاء الله بكم لاحقون ، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) .حيث انه صلى الله عليه وآله كان يقول (إنني قد أُمرت بالاستغفار لأهل البقيع)، لهذا يبقى البقيع مناراً يتحدى الظالمين. كان الاستعمار الانكليزي يسيطر على معظم دول العالم ؛ فبريطانيا العظمى الإمبراطورية التي لا تغيب عن ممتلكاتها الشمس ، بأراضيها الشاسعة ، لا يمكن أن يتم السيطرة عليها بصوره مباشره من قبل الانكليز أنفسهم، فلابد من طريقةٍ ما للسيطرة على تلك المستعمرات ، فاتخذت عدة طرق لتحقيق ذلك الهدف ، منها إفشاء الجهل و إيجاد العملاء ومحاربة روح التحرر لدى الشعوب ، وبخاصة تلك التي تمتلك حضارة عريقة كانت يوماً أعظم الحضارات على وجه الأرض. فكيف يتم ذلك الهدف؟! .. كان لابد من إيجاد طريقة ما للقضاء على أي رمز يمثل الحضارة الإسلامية العظيمة ، ويُذكِّر تلك الشعوب بماضيهم التليد ويبعث في نفوسهم روح الثورة على النظام القائم ، ويطمح نحو إعادة الحضارة المنهارة ، باعتبارها المعين العذب الذي لا ينضب ، الذي يروّي ظمأ الثائرين ، ويخط لهم الطريق القويم.فعمل من أجل إيجاد منفذ من داخل المسلمين أنفسهم، فتم القرار في أروقه وزارة المستعمرات البريطانية عام 1710م لتشكيل لجنه خاصة تأخذ على عاتقها تحقيق ذلك الهدف.ومنذ ذلك الوقت بدء العمل ولسنين، فتم تأسيس الحركة الوهابية على يد أغبى العملاء في الدول الإسلامية محمد بن عبد الوهاب.كان أول انجازاته تهديم أي مَعلَم يشير إلى الحضارة الإسلامية، وكان في طليعتها بقيع الغرقد ،ولم يكتفوا بذلك؛ بل أرادوا تهديم قبر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ، إلا أن موجة الاعتراضات التي واجهتم بها الدول الإسلامية حالت دون ذلك ، وإنهم ليتأملون تهديمه وتهديم الكعبة المشرفة إلى الآن. والحالة هذه ؛ فلو كانت الأمة الإسلامية بالأمس، قد وقفت أمام ذلك المشروع الوهابي الذي اقترف جرائم هدم قبور الأئمة عليهم السلام في البقيع ، لما انتشرت وتوسعت تلك الثقافة الضالة البائسة الظالمة إلى يومنا هذا ، بحيث يطال أتباعهم من طالبان في أفغانستان وجبهة النصرة في الشام و داعش في العراق إلى تجاوز جميع الحدود والخطوط الحمراء في العالم .. كأن تكون الحدود الجغرافية أو الحقوق الأدبية ، ليس على مستوى العلاقة الطائفية المذهبية المتباينة ، بل؛ على مستوى الإنسانية جمعاء .. بل ؛ الأديان كافة . هدم أضرحة الأنبياء عليهم السلام في نينوى ليس عملاً موجهاً ضد الشيعة المسلمين حسب ، وليس عملاً موجهاً ضد السنة المسلمين حسب ، وليس عملاً موجهاً ضد العملية السياسية في جمهورية العراق ، وإنما هو جريمة ضد التاريخ الإنساني .. ضد المسلمين .. ضد المسيحيين .. ضد اليهود .. ضد الصابئة .. ضد جميع المؤمنين بنظرية (الله) ! لو كان المسلمون في العالم الإسلامي .. لو كانت المنظمات الدولية الأممية .. لو كانت عصبة الأمم المتحدة والأمم المتحدة قد تصدوا مجتمعين لجريمة آل سعود عامي 1220هـ &1344هـ؛عندما أقدمت المملكة العربية السعودية على هدم المقدسات الشيعية الإسلامية مرّتين في البقيع بالمدينة المنورة ، لما تطاولت تلك الثقافة على كافة المقدسات السماوية والحضارية في عالمنا اليوم ! إن الخطر المحيق بالشيعة في العالم اليوم جرّاء المخططات التكفيرية المنطلقة من المملكة العربية السعودية وقطر اليوم ، يعد نذير شؤم وناقوس خطر يدق في آصال التاريخ الإنساني كافة، وإن من لم ينتبه إلى هذه الحقيقة يعش في دائرة الظلام المطبق ، وسوف يحترق في نيران الوهابية المقيتة ، كما احترقت الأمة اليوم بنيرانها في بلاد الشام وبلاد الرافدين . الأمة العربية الإسلامية والعالم والمجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية والمؤسسات الروحية مطالبة اليوم بموقف حازم إزاء ما يجري من انتهاكات متكررة ضد رموز الحضارة البشرية المقدسة والآثار العظيمة التي تتجاوز عليها فئة ضالة لئيمة تسمى (داعش) ، وليس المهم من أين جاءت هذه ، ومن يمولها ، ومن يخطط لها ، ولكن المهم التصدي لمشاريعها الخطيرة التي تسعى إلى تدمير الحضارة الإنسانية على الأرض. والله من وراء القصد ؛؛؛ المصادر ــــــــــــــ: -. معجم ما إستعجم من إسماء البلاد والمواضع ـ الجزء الأول ـ ص 265. - . دائرة المعارف الإسلامية ـ ص 350. - البقيع الغرقد، للشيرازي: ص25-26. - : أعيان الشيعة. محسن الأمين العاملي، طبع بيروت - منشورات دار التعارف). |