لي مع المعدة حكاية طويلة . في عنفوان الشباب ، في منتصف العشرينات من العمر ، أوقعتني أرضاً حتى كاد الأمر أن ينجر إلى فحص بالمنظار الباطني ( الأندوسكوپ ) و كان يومذاك غير شائع الإستخدام كما في أيامنا هذه ، لكن تربة سيد الشهداء استبعدت الأمر ، و لست بحاجة إلى الشرح ، فذوو القلوب السليمة يعرفون ما أقصد . بعد ثلاثين من السنين أو تزيد ، عادت أسطوانة المعدة إلى الدوران ، بعد أن كاد لحنها أن يُنسى . في كل مرة ، في الشباب و على أعتاب الشيخوخة ، تثور المعدة لقضايا الآخرين ! فمن طبعي ، أني أحترق حدّ الشواء لآلام المظلومين . أحترق و أتفحّم ، أنا غير القادر حتى على نصرة نفسي و الإنتصاف لها ، أو إن شئت ، أنا الذي لا يعرفه أحد في عصر الرخاء و تقسيم الغنائم ! ما العمل ، ليس الأمر بيدي ، فهو مكتوب على الجبين وفق نظام جيني لا يقبل التعديل . في ثورة المعدة الحالية ، التي دامت حتى الآن سنتين ، كما في الثورة الأولى منتصف ثمانينيات القرن الماضي ، أهرع إلى الكتب و الدوريات و في أيامنا الراهنة إلى النت لأتبيّن موضع قدمي . أين أقف ، و متى سأتوكل على الله و أرحل ! فالطبيب في بلداننا بخيل بالشرح و الإيضاح كريم بالدواء و العلاج ، و الطبيب في هذه البلدان بخيل بالدواء و العلاج مكثار في الشرح و الإيضاح الذي لا يغني غالباً و لا يسمن من جوع كونه يفسّر الماء بعد الجهدِ بالماءِ ! لا اُطيل على القارىء ، بعد هذه الجولات و المُعاينات و المُعانيات ( جمع معاناة ) أيقنت أن حديثاً أو حديثين شريفين يلخصان كل حكاية المعدة ، من الألف إلى الياء . فقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلّم قوله الذي أنكره السلفيون و نسبوه لطبيب العرب حارث بن كلدة ( لسبب أجهله لكن قد يكون أهل البيت رواة هذا الحديث ) : " المعدة بيت الداء و الحِمية رأس الدواء " ( الحمية أي الدايَت ) . و ورد عنه أيضاً : " ثلث لطعامك و ثلث لشرابك و ثلث لنفَسك " و هو يعني تقسيم المعدة إلى ثلاثة أقسام عند الأكل أو الشرب ، يُترَك واحد منها ( لنفَسك ) فالمتخم يكاد أن يختنق من اللهاث و الشخير و النخير ! و قد دلّت تجربتي ، بعد معاناتي مع " الإرتجاع البلعومي الحنجري " و أخيه " الإرتجاع المريئي " و هما المتمثلان برجوع سائل المعدة الحامضي و بعض الأنزيمات و شيء من عصارة المرارة إلى المريء ثم البلعوم بعد تناول الوجبات الرئيسية و تدميرها التدريجي للمريء الذي قد يصل إلى سرطان المريء ، و تخريبها للحنجرة و حبالها الصوتية الدقيقة ، نتيجة رخاوة صمامي المريء لدى ارتباطه بالمعدة من جانب و البلعوم من جانب آخر ، دلت تلك التجربة على أن الحديثين الآنفين هما خلاصة الوقاية و العلاج معاً . فعندما تترك ثلثاً من المعدة ( لنفَسك ) تُتاح فرصة مناسبة للحامض المِعَدي و السوائل المرافقة له لممارسة عملها الضروري لهضم الطعام تمهيداً لتمثيله ، في أجواء و فضاءات كافية و مناسبة ، أما إذا اُتخِمت المعدة بالطعام و الشراب خصوصاً الحار منه و المليء بالكافيين كالشاي و القهوة و حتى البارد كالكولا ، فمن شأن ذلك إرجاع مزيج السوائل إلى أعلى عقب اتساع الصمامين . و هنا تكون المعدة فعلاً بيت الداء ، و اجتناب تلك التخمة القاتلة ، أي الحِمية أو الدايَت رأس الدواء ، فهل يصدر مثل هذا التشخيص الكامل ، العابر للزمان و المكان ، إلا عن من لا ينطق عن الهوى ؟ الطريف ، أن ثمة علماء كباراً توصلوا إلى ذات النتيجة ، لكنهم امتدوا بها إلى استنتاجات غريبة . من هؤلاء ، بل في طليعتهم ، عالِم البكتيريولوجيا " ميچينكوڤ " ( لا للشيخوخة المبكرة ، دكتور سامي محمود ، ص 3 ) الذي اعتبر الجهاز الهضمي عامل مقتل و موت الإنسان بسبب التسمم التدريجي الذي يحدث فيه ، بل اعتبر أن عمر الإنسان هو عمر جهازه الهضمي ، غير أنه انتهى بالأمر إلى اعتبار الأمعاء الغليظة شيئاً زائداً علينا أن نرميه بعيداً ، كما فعل إسماعيل ياسين عندما ألقى بعيداً أجزاء من بندقية التدريب أثناء خدمته العسكرية ظاناً أن تلك الأجزاء زائدة ! على كل حال ، هذه دعوة إلى النظر إلى الأحاديث الشريفة بروح جديدة . فما زلت أذكر أن جاهلاً فاجأني بالقول يوماً ، عندما رآني أتصفح كتاباً بعنوان " طبّ النبيّ و الأئمة " : العلم وين و انت وين !
|