الحرب ضد الاموات

 

إن ما نشاهده اليوم ونتابعه عبر القنوات الإخبارية من هدم للأضرحة ونبش للقبور ليس في العراق فقط بل في ليبييا مالي والجزائر وبعض دول الجزير العربية ليس سوى ثقافة همجية اتكأت على بعض النظريات اللاهوتية المحتكرة للحقيقة المطلقة، والتي شرعنت منذ زمن طويل مبادئ العنف والقتل والقمع اللاهوتي في الوسط العربي والإسلامي، تلك الثقافة الاقصائية التي وظفتها بعض الدول لخدمة مأربها السياسية وتنفيذا لأجندتها الذاتية، كما وظفها للأسف الشديد بعض الفاعلين الاجتماعيين خدمة لمآربهم الاجتماعية غير مبالين بنتائجها ومآلاتها المؤججة لكافة الإشكالات الطائفية والعرقية والدينية.

تُعتبر عداوة داعش للأضرحة واحدة من الخصائص المميزة للحركة الوهابية التي ظهرت في المملكة العربية السعودية. والسلفية هي الاسم الذي أطلق على مذهب "محمد بن عبد الوهاب" (1703 – 1791م)، الذي استلهم أفكاره من الإمام "ابن تيمية" (توفي عام 1328م)، في شبه الجزيرة العربية. هذا المذهب بسيط في الحقيقة، غير أنه يعتمد على تفسير حادٍّ للدين. وأحد هذه المبادئ التي يمكن تلخيصها في نقاط ثلاث: رفض التفسيرات المجازية للقرآن الكريم، والاعتماد كليًا على التفسير اللفظي أو الحرفي. وثاني هذه المبادئ هو عدم تبني كلام أي أحد بعد النبي – عليه الصلاة والسلام – باعتباره دليلاً دينياً، وفي النهاية اعتبار أن "العمل جزء من الإيمان". وآخر هذه المبادئ هو تكفير من يكون عمله ناقصاً، أي من لا يؤدّي الفرائض. وعليه، فإن المخاطَبين بمبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" هم المسلمون الذين أعلنهم السلفيون كفارًا. وما إراقة دماء الكثير من المسلمين من قبل بعض التنظيمات التي تتبنى المنهج السلفي مثل القاعدة وداعش إلا نتيجة لهذا التفسير. كما أن عداوة الأضرحة والقبور هي نتيجة لرفض التفسيرات التصوفية للإسلام. وتمثل السلفية الجهادية، كنتيجة لهذه التفسيرات، إحدى الفهومات (البشرية) الحادة للإسلام التي تعلن الحرب على بقية الفهومات المتعارضة معها – برفض وتكفير جميعها - ولا يتحمل الآخرين وأفكارهم، ويستخدم العنف كوسيلة ضرورية، ألا وهي التفسير "الخارجي" الحادّ للإسلام!

إن عداوة الأضرحة، أي الحرب المعلنة على الأموات، في الواقع، هي نتيجة للغضب إزاء ماضٍ لا يبدو زاهراً ومشرقاً بما فيه الكفاية. وهي في الوقت نفسه أقصر الطرق لعداوة التاريخ. وعندما يحفل الواقع المعاش بأنواع عديدة من خيبات الأمل، فإن العودة إلى عصر ذهبي ولّى، أي إلى "السلف"، تصبح أسهل طريق للهروب. وليس من الصدفة أن يكون "ابن تيمية"، المعروف بأنه مؤسس السلفية ممّن شاهَد حرْق وتدميرَ بغداد من قبل المغول عام 1258م. وكذلك فإن انتشار رسالة "محمد بن عبد الوهاب"، مؤسس المذهب، بين البدويين الذين يعيشون حياة "البداوة والوحشية"، لافتٌ للانتباه.

لسنا هنا على كل حال في معرض تفكيك النظريات اللاهوتية التي تؤسس لظاهرة العنف المقدس في العقل العربي اليوم، لكننا ندرك أن من يؤمنون بتلك المزارات والزوايا الدينية هم مسلمون يعبدون ربا واحدا، ويؤمنون برسالة واحدة هي رسالة الإسلام، ولذلك كان علينا أولا استنطاق المبادئ الكبرى للرسالة السماوية في شعائرها المقدسة، متذكرين بأن الطواف بالكعبة وهي من أحجار لا يعتبر شركا بالله، وتقبيل الحجر الأسود ليس كفرا بالله، والسعي بين الصفا والمروة ليس إشراكا بالله ؛ بل معظم الشعائر المقدسة للحج ليست مما يعقله البشر في صيغتها التعبدية. إن الاعتداء على المقدسات الإنسانية والتراث العالمي انطلاقا من رأي فقهي معاصر لا يمثل اعتداء على التاريخ فقط بل اعتداء على القيم الكبرى للمجتمع والإنسان، وتشويه للدين الإسلامي وحضارته أمام شعوب العالم المتقدم، حيث رسالة الإسلام للعالم أجمع، فلن ننسى أبدا ما صنعته حركة طالبان في التاريخ الإنساني الموجود في افغانستان عندما قامت بهدم التماثيل البوذية التي وجدت قبل ظهور الإسلام، بل لم يجرؤ علماء الأمة الإسلامية طوال أكثر من عشر قرون على شرعنة هدمها باسم الله كما فعلت حركة طالبان، لتعطي بذلك صورة وحشية عن المسلمين أمام شعوب العالم المختلفة، وكلنا يدرك اليوم المآلات التي صارت إليها تلك الحركة.

واخيراً ، فانه انتهاك صارخ لكل القيم الكبرى والمبادئ العلياء التي جاء من أجلها وبها الإسلام كقيمة التسامح والحرية والكرامة الإنسانية واحترام ثقافة الأخر أيا كان، وهي في حقيقتها قيم إنسانية تشترك فيها ثقافات الإنسان العاقل بغض النظر عن دينه وعرقه وتاريخه، وهو المعنى الثقافي والإنساني لمفهوم كونية القيم، أي خروج القيم الكبرى من دوائرها الذاتية المغلقة لتنتشر حيث صناعة حضارة الإنسان المتقدم