عندما تغضب الكلمات... رباح ال جعفر
بعد طول فراق وكثرة تردد . أن تقول لوطنك : وداعاً . فتودعه بجميع تعاساته ، كمن يرمي من نافذة عالية أثاث بيت قديم أكله السوس ، ليشطب على الذاكرة .
أسمع أنين الشهداء . ألمح دموعاً تختنق بالعتب . يا لبؤس وطن لا يستطيع أن يخرج جثة طفلة بعمر الوردة من تحت الركام . لا يقدر أن يلف إصبع طفل جريح بالقطن والشاش المعقم . لكنه يوغل في التعذيب ، ويلتهم أبناءه في مقبرة كبيرة مثل الوباء ، ويشمت بضحاياه .
بلادنا ظالمة . ترضى عن السهو وتكافئ على الخطأ . أينما التفت وجدت فساداً وتآكلاً وانهياراً ليس هناك من يردّه أو يصدّه ، وهذا الوطن انتحاريّ بامتياز . يخفي تحت أنيابه مليون قاتل وقتيل . 
أكتب ما يعنّ في نفسي من خواطر . صور كثيرة هاجمتني . كانت الأشدّ مضاضة في تاريخ الشوق والتذكر والحنين إلى ناعور في حديثة كان يئنّ بالوجد فيبعث الشجن . تذكرت ذلك الغروب بين الوهاد والهضاب والتلال . اشتقت إلى حفيف أوراق الأشجار تعزف لحناً في الريح يشبه الشكوى . إلى هدير الأمواج الفراتية تنكسر رؤوسها فوق صخور من حواجز مائية . إلى أحاديث القرويّات من الجدّات والأمهات . إلى آبائنا المتكئين بقاماتهم على المحاريث . أتحرّق شوقاً إلى بساتين تتقافز حول أشجارها الطيور عند منتصف الطريق إلى البيوت . إلى ذلك الأفق مزهواً بأسراب من القطا . تذكرت قول المجنون : ( أسربُ القطا هل من معير جناحه .. لعلّي إلى من قد عشقت أطيرُ ) . اشتقت إلى تلاوين الشفق تستحمّ على أجنحة الفراشات الهائمة بين اليمامات والزهور بألوان قوس قزح . إلى هلاهيل النساء مبتهجات حين يجمعن الحصيد من البيادر . إلى ( يم الخديد الوردتين التصبي ) تلك الحسناء المترعة بالفتنة يغار منها قمر سهران . 
وخطرت لي من حديثة حكايات وذكريات من شتاءات طويلة ، حين كانت تغرينا بعشيّات السمر حول مناقل الشاي وسهرات من الزجل الشعبيّ ، ونحن نستمتع بحديث المواقد في البيوت ودفء الدواوين ، ونطعم نارها من خشب صفصاف قديم ، ودخان الورق المبتلّ يُبلّل عيوننا بدمع غزير ، والسماء تمطر طيوراً وبلّوراً ، وترعد بالصقيع . تذكرت مشهداً من نسوة مجللات بالحزن يجلسن في ساعة غروب للبكاء ( على أهل المرتبة والصيت عالي ) . هناك وقفت على جرف تسكن شاطئه روح الأسلاف أسمع ( نغيط الوز ) ، وبنيت على الرمل القصور والجسور ، وجلست على صخرة صمّاء أنظر إلى الآفاق البعيدة ، أتساءل : هل ثمة رؤىً وراء هذا الغيب ؟.
أأقول ماتت كل تلك الصور ؟ لنفترض أنها ماتت ! ألا تستحق منا أن نقيم لها جنازة شعبية لائقة ، وموكب تشيّيع أقلّ بشاعة ؟!.