أحب العراق موطني الذي ولدت فيه , وعبقت من نسمات هوائه , وشربت من مياه نهريه وتكحلت عيوني بترابه , ورضعت فيه من صدر أمي حليب الأجيال , وتمتعت بأحضانها بالحنان والعطف والدفيء اللذيذ.
أحب العراق وأنا أحبو على أرضه , وأحاول أن أنطق بعض كلمات من لغة الضاد , فأبعث في قلب أمي عناصر البهجة , والشعور بالامتنان والانتماء للأرض والإنسان.
أحب العراق وأنا أمضي مع أمي لأزور مراقد الأئمة واستمع برهبة وعجب , لتلاوة القرآن والتواشيح النبوية في مدينتنا الغارقة بحلم الحضارة والسيادة والعزة والكبرياء. أحب أصدقاء طفولتي وصديقاتي ومدرستي الإبتدائية ومعلميها , التي درس فيها أبي وأقاربي, وأستعيد ذكريات أيامي الجميلة في أروقتها وحدائقها الغناء , حيث كنا نجلس لكي نرسم شجرة الصفصاف التي هي بعمر مدرستنا آنذاك. أحب شوارع مدينتي وأزقتها الضيقة وشناشيلها , ودربونتها الأثرية الخالدة المزدحمة بالحب والحياة والتفاعلات الاجتماعية الطيبة , وأحن لديوانها ومقاهيها ومياهها وكهوفها ومعالم حضارتها ومراقدها , ورجال دينها وأدبها وفنها ورياضييها , وشبابها المفعم بالحيوية والطموح والثقافة والعلم والأمل. أحب شواطئها وتمورها وأعنابها وأثمارها وخضارها , وبائع اللبلبي والباقلاء والعنبة والشلغم وشعر البنات والكركري والساهون والبيض المسلوق والكاهي , وقيمر الصباح والبقلاوة والزلابية والكعك والبقصم , وأكلاتها الشعبية وأعراسها وحفلاتها , ولياليها الساحرة المعطرة بالضحكات. أحب مكتبتها ونواديها وجلسات شبابها الثقافية والفنية ونشاطتها الرياضية ومهرجاناتها, وتفاعلاتنا على رمالها ومباراتنا في شوارعها وساحاتها ومزارعها وبساتينها , وسباحتنا في مياهها وصيدنا للأسماك والأطيار , وجولات بحثنا عن الكمأ في أطرافها بعد أن يسقط المطر ويربو العشب وتتباهى الماشية برزقها الوفير . أحب مدينتي وفيها أحب العراق. أحب الجبال والسهول والهضاب والتلال والآثار , والأنهار والبحيرات والوديان في شماله الغني بالأطيار والأزهار. أحب آيش وشيرين وكلايش ونورهان وكولشان , وحمه علي وكاكا أمين , وعلي وعمر وبا بكر وغيرهم من أصدقائي ورفقة أيامي ذات وقت بهيج , في سنكسر وجوارقرنة ووادي شهيدان , وشوارع السليمانية وأربيل ودهوك , ومصيف صلاح الدين وشلالات علي كلي بك , وجبل قنديل الذي يحتفل بآيات الجمال والحب كل ربيع. وأستعيد ليالي السليمانية الباردة مع الأخوة والأصدقاء , وجمال بناتها وروعة أسواقها ورقة الابتسامات ووداعة النظرات , والأوقات التي قضيناها نخوض ونسبح في مياه الشلالات. ومزارع التبغ وطقوس جنيه وتحضيره , والرائحة المنعشة التي تفوح في أرجاء الحقول. وخرير المياه وتغريد الطيور والقبج الذي يتربع على سفوح الجبال , ويتباهى بجمال ريشه وعذوبة صوته.
أحب الموصل وغاباتها وشارع حلب والدواسة ومجموعتها الثقافية ومركزها الثقافي , ومتحفها ونهرها وجسرها وأغانيها ولهجة أبنائها وتنوع ملابس الناس في شوارعها. وأحب قوزي الشام واللحم بالعجين والباسطرمة في مطاعمها , والقيمر بالعسل والشاي بمقاهيها في صباحات أيام الجمع المعطرة بتراتيل القرآن الكريم. أحب الربيع ومهرجاناته واحتفالاتنا بأعراسه , وأسترجع أغنية الربيع لفريد الأطرش التي تصدح بها المحلات وترددها الأفواه.
أحب كركوك وأحن لمدنها وقراها ونواحيها وشوارعها ومطاعمها , وأبنائها وطراوة أحاديثهم وحلاوة وجوه بناتها , وأحب مدينة ألتون كوبري وأتذكر المساءات الجميلة على نهرها المتهادي , وأنا أصغي لكلام العاشقين المتيمين بالحياة والغرام العميق , وأعبّر عن عشقي للمرأة والنهر والجمال , والطبيعة وأحلم بصناعة الآمال والطموحات.
أحب صلاح الدين وأهلها وسامراء ورقيها وبطيخها وسمكها ومرقدها وآثارها وملويتها , وتكريت وضيافة أهلها وعروبتهم , والدور وخرنوبها وفكاهة الناس فيها , وبلد وإمامها , والضلوعية ذات البساتين الغناء والحدائق الوارفة , والدجيل ومحطة قطارها , وعروبة أهلها ونخوتهم وحسن ضيافتهم وطيب طعامهم.
أحب ديالى وبعقوبة وبساتينها , وأتلذذ ببرتقالها ورمانها وأعنابها , وأتذكر ضيافة أبنائها وكرمهم وطيب معشرهم.
أحب الرمادي والفلوجة وهيت بتأريخها وملاحمها ورجالها الأشداء , وأستعيد ذكرياتي مع أصدقائي فيها ومنهم الشاعر والكاتب والعالم والطبيب. وتنعش روحي الصحراء وتجعلني أقف مباشرة مع أسرار القوة وأصل الوجود , وأنا أرتدي ملابس من السراب المتماوج كأنه الأفق في البحار والمحيطات. أحب بغداد برصافتها وكرخها وأئمتها أجمعين , وجوامعها وكنائسها ومعابدها , وشارع الرشيد والسعدون والنهر وسوق الغزل والصفافير , وساحة التحرير ونصب الحرية وساحة الرصافي , ومطاعمها وكبابها وهمبركر أبو يونان وشربت جبار , وساحة السعدون الفياضة بالحياة , والمنصور ودوندرمة الرواد واليرموك وأسواقها والعامرية ,والكرادة وأبوقلام وشارع أبو نؤاس , والجادرية وساحة الحرية ومطعم فلس, ومساءات الخميس حيث تزدحم بمواكب الأعراس. وشارع فلسطين وحلويات الطارق ومرطبات نادية , والجامعة المستنصرية وأيام كنا في تفاعلات الشباب المتدفقة بكل إبداع وأمل.
أحب الحلة والنجف وكربلاء والكوفة , وأعشق السير في أسواقها والتخاطب مع أهلها وزيارة مراقدها وجوامعها وأتأمل أبناءها .
أحب الناصرية وواسط والمثنى والديوانية , وأتذكر أيام كنت أجوب شوارعها مع الناس الساعية إلى رزقها وعملها , بجدٍ وفرحٍ ونشاط يبعث على السعادة والألفة.
أحب العمارة وجسرها وأسواقها التي تكتظ بالصيد والطيور والبط , وأهوارها والجبايش والمشحوف , وقصب البردي والأطيار الجميلة التي تزقزق في شطآنها.
أحب البصرة وعشتارها وبساتين نخيلها , وشطها الذي تتماوج فيه الحياة , وأريد أن أعود إلى أصدقائي وصديقاتي , وحبيبتي التي ضاعت في غابات النخيل وزحمة الويلات.
أحب العراق بعربه وأكراده وتركمانه وجميع أقلياته الطيبة الأخرى , وأشتاق لدباكات الشمال والجوبي والربابة والمطبك , ولأغانينا المصدحة في الأنهار والوديان والأهوار , والشوارع والحارات والبيوت. وأحن لأصوات ناظم الغزالي وزهور حسين ومحمد القبنجي , ويوسف عمر وفرقة الجالغي البغدادي , وحضيري أبو عزيز وداخل حسن وعفيفة اسكندر وعبد الجبار الدراجي, وجبار عكار وهو يداعب ربابته ويبوح بأشجى ما في روحه من أنغام.
أشتاق للمسرح الوطني والفرقة القومية للتمثيل , ولضربات العود ومقامات الطرب والهيام الجميل , في ليالي بغداد الحالمة بالسلام والرخاء. ولمكتبات العراق ومتاحفه ومعارضه الفنية, وجامعاته , ومقاهي الأدباء في شارع الرشيد , ومتحف الفن الحديث , والكتب في شارع المتنبي , ولمنابره الثقافية وعقوله العلمية ولذة اللقاءات , التي كانت تجمعنا على موائد المحبة والألفة والصدق والنقاء. أحب الحب الذي رضعته بشغف ولذة من أثداء العراق! أحب العراق وحسنه الخلاب وأيامه العذاب , وبساتين البرتقال والرمان والأعناب. أحب العراق موطن آبائي وأجدادي , ومنبع الحضارات والقيم , ومبعث الرجاء والأمل والأطياب. أحب دجلة والفرات وشط العرب , والنخيل والأشجار والقصب وعناقيد الأرطاب. أحب بلادي وأعشق الأرض والماء والسماء , والناس أجمعين في العراق , فكلهم أحباب . فلا تقولوا إنك تبوح بالعجب العجاب!!
لأن: "بلادي وإن جارت عليّ عزيزة وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرام"
مع قبلاتي على وجنات العراقي والعراق! والناس تمضي ويبقى العراق!
|