الجنون والعقدة العراقية

كل محلل سياسي يكتب عن الحالة العراقية وهو يصدقها ويثابر في تصديقها، مستخدما تصريحات السياسيين كأسانيد وشهادات سيكتشف بمرور الزمن أنه يسجل أفكاره الخاصة التي لا علاقة لها بالواقع، وسيحتاج هو نفسه الى تحليل. من يحلل أفعالا تقترب من عالم الجريمة والجنون، في حقل يفترض أنه يتصف بالمنفعة العامة من حيث الأهداف، والعقلانية من حيث السلوك، ويواصل تسمية ذلك بالسياسي، يحتاج الى أن يفيق من هذا التوهم بصدمة كهربائية. ليس في العراق ما هو سياسي حتى يمكن تحليله ومعالجته. في العراق توجد أبخرة سامة تخرج من خنادق طوائف أسلمت قيادها الى مجانين - ابخرة تسمم الاجواء وتجعل الجميع في حالة غثيان دائم.

أتساءل: كيف نفهم حالة قائد سياسي يخرب الوحدة الوطنية فيما هو يدعو اليها، يخطب ضد المليشيات اثناء ما هو يستعين بها، لا يحقق انجازا واحدا غير الدمار والموت لكنه يحصد أعلى الاصوات؟ وكيف نفهم ثورة عشائر وأشخاص أسلموا أنفسهم الى سفاكي الدماء من الدواعش الارهابيين من اجل تحقيق مطالب مشروعة؟ وكيف نفهم ما جرى للمسيحيين والايزيديين في الموصل مؤخرا من دون أن نفهم ما جرى لهم في بغداد والبصرة؟ القصة قديمة مثل باقي قصص التجارة بالارواح في العراق. لقد رفع دستوريو 2003 من العرب والكرد على رؤوسهم ريشة الاكثرية، فعاملوا المسيحيين والايزيديين كهوامش يمكن حذفها بعد استخدامها في المفرقعات الاحتفالية. لقد أهملوهم، لم يحموهم ولا سلحوا شبابهم، عاملوهم كـ(خطية) في محلة بغدادية يحرسها الشقاة. سهل الموصل هو مكان جغرافي ليس الا، وسنجار ليس جبلا أشما ما دام سكانه بلا ريشة فوق رؤوسهم. هاهم الدواعش يطرقون منازلكم يا اولاد الأكثرية المزعومين. إنها صناعتكم ورثاثاتكم الطائفية التي أسهمت بانتصارات داعش.

ليس هناك ذرة من السياسة في العراق. السياسة – كما يقول العقلاء – هي فن الممكن، لكن السياسة في العراق هي فن صناعة العقد، ومعها كل الصناعات المصاحبة من عدم التوقع، والمفاجآت غير السارة، وخسارة الزمن الاجتماعي والسياسي، من غير أمراض شهيات السلطة كالعهر، والسمسرة ، والخيانة، والعمالة، والكذب، واللصوصية، وتمسك بالكراسي، ولحسّ المؤخرات، والتديّن الكاذب، والنفاق الهستيري الذي يمجد الديمقراطية.

أدعو أصدقائي وزملائي من المحللين السياسيين أن لا يأخذوا السياسيين العراقيين بجدية، وأن لا يتوهموا بخططهم وأفكارهم، فهم مجموعة من المرضى النفسيين والمتنمرين. بالعكس أرى أن يردوهم الى مستنقعاتهم الطائفية حتى يفهموا ما يجري عسلا في أفواههم. إنهم ليسوا أشخاصا يتصفون بالاستقلالية والكبرياء والحرية الشخصية حتى يقرروا بل هم حالات نفسية، تراكمات من الفشل والتبجح وخدمة الاجنبي، عبيد هيئة اركان الطوائف التي تستدعي ذاكرة ماضوية حقودا يراد بها حلّ مشكلات عام 2014، كما تستدعي القوى الاقليمية والدولية.

إذا ما سمعت أبطال تسليم الموصل بلا قتال وهم يدافعون عن الدستور، مماثلين وجودهم السياسي في السلطة بالديمقراطية، وأخذت كلامهم على نحو جدي، وناقشتهم كسياسيين عقلاء حقا، فأنت تحول نفسك الى ساذج تصدق تحليلك لأنك منحت حججا عاقلة لمساخر وهزليات لم توجد حتى في أسوأ الانظمة تخلفا. أقترح على أصدقائي وزملائي حتى لا يخسروا رواتبهم ولا شغفهم، أن يرفعوا في الأقل مناسيب حسّهم المأساوي التهكمي، كأن يمررون "فكرة" تساؤلية تقبض النفس بالرغم من أنها تشبه الفكاهة، تشبه القنبلة، وهي: هل كل شيء دستوري.. حتى تسليم الموصل المخزي؟

بيد أن هناك الف مثل ومثل على مزاعم السلطة وفشلها، والف مثل ومثل على هلهلة سياسيي المصادفات الوقحة سواء كانوا في السلطة او ما زالوا يقاتلون مع عشائرهم في الفنادق. لا شكوى من قلة الامثلة. ارموا بحجارة مصممة للضحك ولسوف تقع على رأس عراقي- دانماركي او عراقي- انكليزي أو عراقي- سويدي كان يبيع الخضروات او يتاجر بالسكائر او يتعامل بالسوق السوداء أو سجّل نفسه مجنونا بشكل رسمي في بلد اللجوء، وهو الان يعمل خبيرا في وزارة الداخلية العراقية او مفتشا عاما في وزارة حقوق الانسان أو نائبا. إنهم يملأون السوق السياسي مزدوجو الجنسية هؤلاء، ويمكن التعرف عليهم بسهولة من حركات ناتجة عن وجود دماغين لهم ومن لحاهم الزغبية المحددة المعدة للتمثيل!

قبل قليل سمعت معلقا سياسيا يقول إنها الحرب، كرّ وفرّ. نعم أيها المتفاصح، الوجود السياسي يتضمن الفشل بالطبع، سواء كنا نعيش في بلد فاشي أو ديمقراطي، لكن الفشل والادعاء بوجود ما هو أكبر من فشل، أي "مؤامرة" مرت كمرور موكب سيارات قائد عمليات بغداد، ثم الفشل في الأمن والاقتصاد والتعليم والخدمات، والفشل الفشل حتى في استخدام اللغة، مع تكريس النهب المنظم للدولة، ودفع البلد إلى ازمة سياسية فيما هو يتخبط بدم ابنائه: فهذا لئيم جدا وتآمري جدا ولا يصحّ معه إلا الصراخ ونزع الاحذية!

تصنع السياسة العراقية عقدا لا تحلها الاّ الكوارث، بل حتى الكوارث لا تحلها بل تزيدها سعارا. المجانين لا يتضامنون عند الكوارث كما هم البشر الأصحاء، بل يزدادون لؤما وسعارا، وترتفع عندهم مناسيب الهلع وحب التحشيد الغوغائي الذي يحتاج الى ولائم. هم الجائعون الى السلطة يحتاجون الى الاحتفالات المأتمية حتى يستعيدوا قواهم بتدمير قوى الآخرين العاقلة. هم الذين يعتقدون أنهم رساليون يصنعون احتفالات تليق بالشعوب البدائية التي تستخدم السحر الأسود للانتصار على العدو.

كيف تصنع عقدة تضيع نهاياتها بالشد والاحتيال والتمريرات اللانهائية لخيوط خارجية ورقع وطنية؟ نجد الجواب في عقول وإرادات رجالات 2003 الذين جاء بهم الامريكان. هؤلاء لا رابط يربطهم غير الحقد والإيذاء وسرقة المال العام. وبسبب الحساسية الوطنية والقليل من الخجل خففوا الوجود الامريكي بوجود ايراني وتركي وسعودي، فجعلوا من النغولة السياسية مرجعيتهم الأولى، وصنعوا عقدة تبز العقد التي اعتاد الامريكان أنفسهم صناعتها. الآن يطالبون الامريكان بالتدخل وتفعيل المعاهدة الامنية. إن دورة المجانين هذه اذاع سرها واحد من رموز دولة القانون قبل سنوات عندما ادعى أنهم ركبوا الثور الامريكي لإسقاط صدام. أهذا من دبس الكلام أم من ملحه؟

هناك حكاية تشير الى أن رجال الكهنوت في أرض الرافدين القديمة كانوا قد صنعوا عقدة للتسلية في عصور انحطاطهم متفاخرين بها أمام قادة الاحتلال. وهكذا يبدو أن الامر قديم، وأن هذه الارض مسكونة بالعقد والمعقدين.

تقول الحكاية إن كهنة بابل القديمة قدموا للاسكندر المقدوني الذي احتل مدينتهم أعجوبة هي عقدة حبل محيرة التعقيد، ليست بدائية من تلك التي يتعلمها الكشافة للتسلية، ولا حرفية من تلك التي تخدم أغراضا عملية كعقد الصيادين ومتسلقي الجبال، بل عقدة جبارة صنعتها عقول تأملية ذات أهداف جمالية وفلسفية. عقدة تتشبه بالقدر، من حيث الدلالات الفكرية. فنحن في النهاية نواجه ما لا قبل لنا على معرفته وفهمه من شروط وظروف ونذالات وأخطاء وأوهام وسهو وحماقات أسهمنا مع الآخرين في حياكتها، فتبدو كعقدة لا حل لها تواجهنا في لحظة حاسمة.

إنها موضوع تأمل، تصلح للمواعظ، وتحسين السيرة، وليس لبناء دولة والدفاع عنها.

الاسكندر المقدوني ابن حضارة كان فيها الآلهة والبشر يتبادلون الحماقات والأفكار والتآمر، أدرك بحسّ الغازي المدرب على ألعاب المغلوبين، أن كهنة بابل يتحدونه بلعبة ظاهرها مادة وباطنها رمز، مع محاولة خفية في التفوق، فراح يتأمل العقدة كمحارب صريح يتأمل خطة عدو يحاول الانتصار في لحظة هزيمته، ومن دون تردد استل سيفه البتار وقطعها، فتناثرت، مفككة، ذليلة، هزلية، أمام بصر اولئك الذين لم يحموا مدينتهم بل تسلوا في صناعة غبية يتفوق فيها السيف على التكريس الفارغ والحماقة.

بلدنا يقاد من حمقى يصنعون عقدة تحتاج الى سيف الاسكندر. البلد ينحر من الوريد للوريد، لكن القائد يواصل حياكة العقدة، رابطا اياها بشريط الاستحقاق الدستوري الملون. البلد مهدد في وجوده والقائد متمسك بالاستحقاق الدستوري. هو الذي يقود حزبا لم يؤمن بالديمقراطية كقيم بل كآلية محددة بصندوق الانتخابات الذي يمكن تزويره، وقد زوّر حقا لمصلحته، يختزل الوضع السياسي العراقي المعقد بالاستحقاق الدستوري. الاكثر من هذا يهددنا بأبواب جهنم في حالة عدم الالتزام بالاطار الدستوري. من أين له هذا التوقع إن لم يكن ناطورا على أبواب جهنم؟ هذا الذي لم يتوقع سقوط الموصل وجيشه فيها، كيف يعرف أن بوابات جهنم ستفتح؟

ها هي العقدة تتحول الى هدف كامل. يوميا يداس الدستور بالأقدام، فلماذا لا نستنتج أن الاستحقاقات هي الاقدام نفسها التي تدوس الدستور؟

من المفروض أن يحمينا ويقتص لدمائنا لكنه يهددنا بفتح ابواب جهنم، من اجل ولاية ثالثة، فلماذا لا نستنتج أنه واحد من المسؤولين عن إهدار دمائنا طيلة ولايتيه الاولى والثانية؟

حتى لو منع هذا الرجل من تولي الثالثة.. فسيتولاها في الخفاء ما دام يمسك بأبواب جهنم (الجيش والشرطة والأمن والاستخبارات والملفات السرية والاعلام والمليشيات)، وما دامت هيئة أركان الطائفة تفضل الحفاظ على ماء الوجه، وأن لا تخسر رجلها المتخصص بالبلاغة وفتح أبواب جهنم!



هكذا تكبر، وتكبر، وتكبر، عقدتنا وعقدنا!