العراق جنة لولا

في أواسط القرن الماضي كان اللبنانيون يقيسون مدى نجاح مواسمهم الصيفية بعديد المصطافين العراقيين، آنذاك لم تكن السياحة حكراً على العراقيين الموسرين، فما أن تبدأ عطلة المدارس الصيفية حتى يشد الألاف من الموظفين والمعلمين والمعلمات الرحال إلى مصائف لبنان، ولعل زملائهم اليوم يذرفون الدمع على تلك الأيام الخوالي عندما كان الموظف الحكومي يقبض جزاء عمله اجراً مناسباً إضافة إلى إحترام وتبجيل الناس، ولكن عراقيي ذلك الزمان – وكل الأزمنة- لا تسحرهم تماماً أجواء بحمدون البديعة ولا تشبع أذواقهم النهمة أسواق بيروت العامرة، وإن سألتهم عن رأيهم لردوا عليك بصوت واحد: لبنان جنة لولا... يتوقفون برهة لينظروا حواليهم لئلا يسمعهم لبناني غيور على وطنه قبل أن يكملوا: لولا اللبنانيون!!

في جنة العراق لم يتعرض آدمها وحوائها للطرد، بل تركوا لاستيطانها وتعميرها، وعندما كان آدم العراقي يخرج لصيد الأسود والنمور والغزلان كانت حواء العراقية تجري البحوث الزراعية على باب مغارتها أو كوخها، وقبل أن يصطاد آدم كل الطرائد بين الرافدين كانت حواء قد اكتشفت الزراعة، وإذا كان الغربيون يفتخرون علينا بصناعة عمرها ثلاثة قرون فقط فلنا كل الحق أن نتباهى عليهم باكتشاف الزراعة منذ مايزيد على مائة قرن، ولولا الزراعة لكنا جميعاً أسارى العصر الحجري أو الحديدي...

العراق جنة لا نقولها تفاخراً أمام الغرباء فحسب، ولا نرددها مثل أنشودة مدرسية مفروضة علينا من دون اقتناع حقيقي بفحواها، عندما يتفوه بها العراقي تكاد تساقط الكلمات من فمه رطباً جنياً، وعندما تتغنى بها عراقية تشم في أنفاسها عطر الجنة، لا عجب أن يولد فيه الأنبياء وأن يدفن فيه الأولياء، ولا غرابة أن تبدأ به أول حضارة ولن أستغرب لو نهضت فيه آخر الحضارات، هنا تعلم البشر الكتابة، وهنا أفاق العقل والفكر والفلسفة والعلم بعد سبات طويل.، ولكن هل نحن خير خلف لذلك السلف الحضاري؟

لو قارنا بين جنة العراق وجنة الخلد لوجدنا تشابهاً بينهما، في بعض جوانب الجغرافية على وجه التحديد، فالجنة تجري من تحتها الأنهار والعراق يجري في وسطه نهران عظيمان، وفي الإثنين جنات من نخيل ورمان وفواكه متشابهة وغير متشابهة، ولكن هل حفظنا نحن العراقيون هذه النعم التي تكاد تجعل من بلدنا جنة في الأرض؟

لا مجال للمكابرة وإنكار الحقيقة، ولو كانت أمر من العلقم، ومن المؤكد بأن واقعنا المزري من صنع أيدينا من دون مواربة، أيدينا أهملت جنات النخيل حتى فقدنا عشرة ملايين نخلة في سبعينات القرن الماضي فقط، وغزت الطحالب نهري دجلة والفرات بفعل سوء تدبيرنا وافراطنا في استخدام المخصبات أثناء التسعينيات، وبدلاً من شكر الله على نعمه بالاستفادة منها أشترى بها المتسلطون علينا السلاح لنقتل بها الأبرياء، وأخوتنا وأولادنا هم قتلوا أنفسهم عدواناً وبغياً على جيراننا.

إذا كنا قد ضيعنا بعض ملامح الجنة في بلدنا بفعل أيدينا فهل فينا شيء من صفات أهل الجنة؟ تبين الآية الكريمة التالية (الحجر:47) الخصائص المميزة لأهل الجنة: (ونزعنا ما في قلوبهم من غل أخواناً على سرر متقابلين)، وللأسف فإن حال العراقيين على النقيض من ذلك، فالقلوب متقيحة بالحقد الديني والطائفي والعنصري والحزبي والطبقي إلى درجة أستحلينا بها القتل الجماعي وذبح الأطفال وقطع رؤوس الأبرياء واغتصاب النساء ونهب الممتلكات، وعندما نتقابل كرهاً نتبادل الاتهام والشتائم واللعنات واللكمات والركل وأحياناً الطلقات النارية والقنابل وهي الدليل على اضمحلال روابط الأخوة والانسانية بيننا.

بعد استعراض هذه الحقائق لا بد من الاستدراك على عنوان المقالة، وقد أخطأت في صياغته كما شططت في المقاربة بين الوضع في العراق وبين الحالة اللبنانية، فالعراق اليوم جحيم لا جنة، وكما أن أهل الجحيم الأبدي لايطيقون الحياة فيه ويتمنون الخروج منه أحياءً أو أمواتاً فقد غدت الحياة في العراق لا تطاق، وما صبرالعراقيين عليها إلا من قلة الموت كما يرددون.

العراق جحيم لأننا طردنا الجنة من بلادنا، نحن الخائفون المترددون الإتكاليون المفوضون أمرهم إلى أسوء الخلق المنقادون وراء أقل الناس علماً ومعرفة الساكتون عن الحق المائلون مع الباطل والأهواء، نحن الذين ما زلنا على العصبية القبلية الجاهلية ولما يدخل الإيمان في قلوبنا، ولكن وعلى خلاف أهل الجحيم الأبدي ما تزال أمامنا فرصة أن نغير ما بأنفسنا، والبداية هي في التحلي بالشجاعة الكافية لنعترف مع أنفسنا وبعضنا البعض بأن الجحيم العراقي نتاج أيدينا، ولنفتح عقولنا على المعرفة وقلوبنا على العواطف السامية ولنجعل من العدل والقيم العليا نبراس حياتنا، آنذاك فقط نكون جديرين بالجنة العراقية.

ليس في هذا المقال جديد، هو مطابق تقريباً في العنوان والمحتوى لمقال نشرته قبل سبع سنوات، ووجدت حاجة لإعاة نشره إذ ما يزال العراق جحيماً بفعل السلوك غير السوي لأبناءه، ولو قدر لي أن أكون حياً بعد سبع سنين فلن أعيد نشره، فأمام العراقيين فرصة أخيرة: أما أن يخرجوا أنفسهم من الجحيم و إلا فلن يكون هناك عراق أو عراقيون.

سيكون العراق جنة بالفعل عندما يخلو من الاكراد الإنفصاليين والسنة الإرهابيين والشيعة المتذللين والقبليين المتعصبين والساسة الفاسدين والموظفين المرتشين.

(للإسلام غايتان عظمتان هما الإحياء والإصلاح ووسيلة كبرى هي التعلم)