سقوط مشروع المالكي: دولة الأجهزة خيار فاشل تاريخياً

تلعب الثقافة الحقوقية للدولة، أي طبيعة نظامها السياسي، دوراً حاسماً، في توجهات المجتمع وطريقة حياة المواطنين، بل وتؤثر أيضاً في نظرة الإنسان لنفسه وللعالم من حوله. لنتأمل الفرق بين طريقة حياة المواطنين في سوريا والعراق ولنقارنها بما يماثلها في سويسرا أو إنجلترا. هناك فرق طبعاً، والسبب يعود إلى اختلاف النظم السياسية ومستوى المعيشة ونوعية الحقوق والحريات التي يتمتع بها أو يُحرم منها المواطن. ومن خلال المقارنة تبرز الحاجة المُلحّة للتغيير في دولنا، ولكن كيف؟ إن نوعية الثقافة الحقوقية للدولة تجعلها بمثابة كائن يفكر بمواطنيه من خلال مجموعة مفاهيم وأعراف تؤدي إلى ضمان أمن الدولة وتطور المجتمع، أو بالعكس حيث تضطرب الدولة ويتفكك المجتمع. ففي النظام الديمقراطي تستمد الدولة قوتها من حيوية المجتمع وتقدمه، بينما الدولة في العراق وسوريا هي دولة أجهزة أمنية مهمتها حماية الحاكم، فالحاكم يستمد قوته من إخضاع المجتمع ومصادرة حقوق المواطنين! ولنتأمل في الخلفيات: يتميز المجتمع بنسيج علاقات ومصالح وتعددية ثقافية وقيم ومفاهيم تنبثق كنتيجة لذلك، حيث يمتاز كل مجتمع بشخصية عامة وتاريخ يميزانه بهذه الدرجة أو تلك عن المجتمعات الأخرى. ولكن هذا الوجود الاجتماعي يتحرك ويتطور من خلال نسيج علاقات مرئية وأخرى غير مرئية لا يمكن ضبطها أو السيطرة عليها، على عكس ما تتصوره دولة الأجهزة الأمنية التي تعتمد على ثقافة الضبط والسيطرة.
لا تمكن السيطرة على إيقاع الحياة الاجتماعية وتجدد ظواهرها من قِبل الأجهزة الأمنية، لأن العوامل والمؤثرات التي تتحكم بإنتاج الظواهر الاجتماعية المختلفة تعمل وفقاً لآليات وقوانين التطور التراكمي التي لا تمكن رؤيتها خلال لحظات نشوئها كي تتحكم بها الأجهزة الأمنية أو تكيفها وفقاً لما تريد. ولذلك كثيراً ما تتفاجأ هذه الأجهزة بنشوء ظواهر أو بروز أحداث لم تحسب لها حساباً!
ولكن ما يحدث في الدول الديمقراطية المتقدمة - حيث سلطة القانون ورقابة الإعلام إلى جانب السلطات العلمية كالأكاديميات ومراكز البحوث- هو العكس تماماً، فالمؤسسات المعنية بحكم مسؤوليتها تضع برامجها تماشياً مع الطبيعة الموضوعية للتطورات الاجتماعية المحتملة، والتي تولد وتتجدد مع كل جيل. فالأجيال الجديدة هي موضع اهتمام لإنها تمثل مستقبل المجتمع والدولة. وفي هذا السياق نشأت المؤسسات التي تعنى بدراسة المستقبل وصناعة المستقبل.
وإستناداً لحقيقة عدم إمكانية السيطرة على المجتمع والتحكم بمصيره من قبل الأجهزة الأمنية، ومع تطوّر وترسّخ ثقافة حقوق الإنسان ومظاهر الحياة الحديثة عموماً، فقد تأكد فشل مشروع الإستبداد تاريخياً، بدءاً من نظرية المستبد العادل مروراً بسلطة الحزب الواحد وأجهزتها الأمنية التي تكتشف بؤسها في اللحظة الأخيرة دائماً، أي في لحظة انبثاق الثورات الشعبية التي لا بدَّ من حدوثها.
إن دولة الأجهزة الأمنية التي طالما تحكّمت بمصائرنا، تعتمد أساساً على ثقافة فاشلة تاريخياً، فوجود هذه الأجهزة وتعددها وموازناتها الكبيرة، هو دليل على فشل الحكم في التواصل الطبيعي مع المواطنين. إن النظام الفاقد للشرعية الدستورية يُدرك أنه يدير دولة فاشلة، هدفها السيطرة على المجتمع واخضاعه! ولذلك فهو يعتمد على هذه الأجهزة، لا للقمع فقط، بل وأيضاً لتعميم الفشل على المجتمع، وهنا تكمن الخطورة!
يجب احباط المعارضة قبل أن تتبلور، يجب إفشال أية قوى حيّة تعمل خارج إطار الضبط والسيطرة الأمنية! هذان هما الهدفان الأساسيان لبرنامج الأجهزة الأمنية، أي تحويل الفشل إلى ثقافة عامة وإجبار المجتمع على التعايش معه! فالمجتمع الفاشل لا يستطع مقاومة النظام أو تغييره. أليس هذا ما جرى ويجري في العراق وسوريا وليبيا .. منذ نصف قرن؟
إذا كان معنى الاستبداد هو الرغبة المريضة بالسيطرة على الآخرين والتحكم بمصائرهم، فإن تخلف الرؤية السياسية الرسمية، أو ضيق أفقها في هذا النمط من الدول، ينشأ من طبيعة الإستبداد ذاتها، فالاستبداد كظاهرة لا يهبط علينا من كوكب آخر، بل هو نتيجة لعقدة غياب الشرعية وتصارع الأحزاب الانقلابية من أجل السلطة وليس من أجل تحقيق العدالة! وكذلك نتيجة لتراكم الأزمات الاجتماعية والسياسية التي لم تجد حلاً عملياً في حينها، فأصبحنا جميعاً تقريباً نفكّر بطريقة مأزومة أو تحت وطأة الأزمة.
وفي هذه الأجواء ترسّخت الأحزاب الانقلابية والطائفية متخذةً أقنعة أيديولوجية قومية أو دينية أو يسارية لإستقطاب مزيد من المؤيدين والأتباع. وعبر الصراع العنيف على السلطة تسرّبت ثقافة الأزمة إلى برامج هذه الأحزاب، وجعلتها تفكّر خارج قوانين الواقع الموضوعي. ولا نبالغ إذا قلنا إن هذه الأحزاب وقياداتها، في السلطة والمعارضة، لا تعرف معنى (موضوعية الواقع) أو (جدل الظواهر الطبيعية والاجتماعية) هذه المقولات العلمية التي غيّرت الفكر الإنساني منذ نهايات القرن التاسع عشر، والتي لم يعد بإمكان أية دولة أن تتطور من دون إدراكها.
إن المشكلة التي تحول دون إمكانية التغيير هي إن أحزابنا المُعارِضة هي أحزاب أزمة وليست أحزاب حل، لأنها مولودة من رحم الأزمة ومتغذية من مشيمتها الثقافية، أي أنها متخلفة حقوقياً وثقافياً بـ(الوراثة). فهي تطالب بالديمقراطية لكنها لا تمارس الديمقراطية داخل اطرها التنظيمية!! ولذلك فهي عندما تنتقل إلى السلطة تنقل معها ثقافتها المأزومة إلى أروقة الدولة، ومن هنا تبدأ إعادة إنتاج الأزمة!
إن هذا النمط من الدول يمنح أجهزته الأمنية سلطة مطلقة، فتكون تلك السلطة فوق القانون والأعراف الاجتماعية، فيصبح بيدها مصير المجتمع لأنها مسؤولة عن أمن النظام الحاكم، ولاحقاً تنضاف إليها النقابات والمنظمات المهنية، التي تتخلى عن صفتها الحقوقية بإعتبارها (منظمات مجتمع مدني) أي وسيطة بين المواطن والدولة، لتتحول إلى منظمات شبه رسمية تديرها أجهزة حزبية خاضعة للأجهزة الأمنية لأن مهمتها المساهمة في ضبط الإيقاع السياسي للمجتمع عبر عملية تدجين ثقافية مدروسة للتحكم بمشاعر الجماهير وتوحيد صفوفها وراء الرئيس القائد!
هكذا يتم إنتاج الأفكار الأساسية لدولة الأجهزة الأمنية. وهي: إن المجتمع هو مجرد أفراد ومناطق ومدن وأرياف تمكن مراقبتها والسيطرة عليها، أي إخضاعها بالقوة أو الرشوة! وضمن هذه الرؤية لا تعترف الدولة بالتطور الموضوعي للظواهر، ولا بالطاقات غير المحدودة وغير المرئية للمجتمع. وهنا تكمن إحدى نقاط ضعف هذه الدولة، حيث تُفاجأ عادةً بحدوث الاحتجاجات والثورات الشعبية التي تصعب السيطرة عليها، وهذا ما يؤكد غباء الأجهزة الأمنية وتخبطها، بل وفشل مشروع دولة الاستبداد تاريخياً.
لكن هذه النتيجة أو الحقيقة لم تدفع الأنظمة الديكتاتورية إلى التنازل، بل إلى مزيد من الشراسة والعنف، إذ انتقلت من برنامج تعميم الفشل إلى تعميم الموت والخراب، انتقلت من الاعتقالات والإغتيالات الفردية إلى احتلال المدن وتهديم البنايات على رؤوس ساكنيها ببراميل المتفجرات! إن ما جرى ويجري في العراق وسوريا وليبيا من خراب ومآس غير مسبوقة إنما يدل أيضاً على أصرار هذه الشعوب على الثورة وطلب الحرية مهما كان الثمن، الأمر الذي أكد دائماً إن مصير دولة الأجهزة الأمنية هو الفشل والفضيحة، فشل الأجهزة وفضيحة الحكام الموتورين حيث تنتظرهم مزبلة التاريخ في النهاية.