سلوك النهرين

 

الحياة العراقية ومنذ الأزل تستمد وجودها وصيرورتها وانطلاقها الأبدي من النهرين الخالدين دجلة والفرات.

فالحضارات بدأت على ضفافهما, والولادات الإبداعية والفكرية قد تأثرت بهما.

وبلاد الرافدين كانت هدفا لكل قوة أرضية صاعدة بسببهما , وبعد ذلك يمكن إضافة أسباب أخرى.

والعراق  يبقى موطنَ الماء والنخيل والنفط , وذخرا حضاريا للبشرية على مدى العصور.

كل ذلك تأسس بفعل حركة النهرين الرمزية , بإيقاعاتها واتجاهاتها والتواءاتها على أرضه.

فدجلة يجري من بعيد الأزمان , ويختزن طاقات حب ورغبة وشوق لا حدود لها , وهو يتحرك بإتجاه الفرات , ويحصل الزواج الحضاري بينهما في القرنة.

هذا التفاعل الروحي الوجداني المتحرك على الدوام , يشير إلى حقيقة الحياة وديمومتها.

فالفرات يسعى إلى دجلة , ودجلة تسعى إلى الفرات , وفقا لمنهج العشق الوهاج , وإرادات الوجود المتوقدة في جوهر انطلاقهما وحركتهما التي تبعث الحياة.

 وما أن يحصل الإلتحام , حتى تولد المدينة ذات الكثافة النخيلية الفائقة , فلا توجد بقعة أرضية تحتضن نخيلا أكثر من مدينة البصرة الفيحاء.

والأجيال العراقية ومنذ لحظة الابتداء الحضاري , قد إهتدت في خطواتها وإدراكها للوجود من خلال سلوك النهرين, فالعراقي يعرف أن الحياة لا تكون إلا بالحب والتفاعل والاندماج والحركة والعمل, ويدرك جيدا أن لا مكان للفرقة والشقاق , لأن ذلك يعارض سلوك النهرين ومنهجهما الأصيل.

ففي أعماق العراقي إحساس مدوي بأن الحياة إنجاز وتفاعل , وتماسك وذوبان روحي وفكري بالآخر, وهذا الشعور مستوحى من طبيعة النهرين في سعيهما لتحقيق الحياة الأغنى والأوفر.

وإكتشف هذا من خلال تفاعله اليومي مع نهري دجلة والفرات , اللذان صنعا هيكلية السلوك والنفسية العراقية ,  وكذلك الأفكار والنظرة للأشياء من حولهما.

فلا يمكن للعراقي أن يرفض الحب والتلاحم والتفاعل والاندماج.

ولا أسعد منه ولا أبهى عندما يعيش تلك اللحظات المشحونة بمشاعر العشق المطلق , وكل ما يدور بعيدا عن ذلك , فأنه لا يرضاه وينكره  ويرفضة بقوة وإصرار.

ولا يمكن وفقا لهذا , أن تفرّقنا الأحزاب والفئات والتجمعات , وأية قوة أخرى , مهما أرادت أو فعلت , لأنها لا يمكنها أن تغيّر الطبيعة والكون والتأريخ.

ولا يمكنها أن تجعل مجرى النهرين من الجنوب إلى الشمال , أو تمنعهما من الإتحاد والإمتزاج, فهذا مستحيل أرضي.

وكذلك منع الشعب من الإمتزاج والتفاعل بكل أطيافه , أمر مستحيل وممنوع أرضيا, ولا يمكن أن يتحقق حتى لو إجتمعت كل طاقات الدنيا من أجل صيرورته لأنها ستتعب وتيأس.

وبسبب النهرين تجد في بلادنا آلاف الشعراء, لأنهما في حركتهما نحو التلاقي , يعبران عن أصدق سلوكيات العشق والحب والشوق والرجاء والأمل.

فدجلة عندها غاية

والفرات عنده غاية

 والاثنان يمضيان نحو بعضهما , ويقطعان المسالك الوعرة ويتحديان السدود والمصدات , ويصرّان على اللقاء والعناق والإندماج في شط العرب, فيدركان أنه مولود إندماجي متفاعل أقوى من أي منهما.

وهكذا فهما رمز كوني لمعاني الحب والتلاحم والعناق , وتحقيق الدروس الخالدة المتجذرة في أعماقنا , التي هي خلاصة محتوى المخلوقات الأرضية , وهما صوت يتردد في خيالنا الحضاري على الدوام.

وإن حبهما الخفاق , ومسيرهما التواق وتفاعلهما الخلاق يصنع الحياة , وما عدا ذلك يناهضها.

وهكذا ترى العراقي يتحدى القدرات والطاقات التي تريده أن يسير بعكس إتجاه النهرين, وربما يعيش محنة حضارية ونفسية , لأنه يدري تماما , بأنه لا يمكنه أن يغير مجرى النهرين , ويشق شط العرب إلى نصفين , أو أن يكون مسير الماء من البصرة إلى بغداد.

إن النهرين يصنعان الدرع الوطني والنفسي والروحي والفكري لدى كل عراقي , ويعلنانها واضحة مدوية ساطعة وفعالة منذ الأزل وحتى الأبد , بأن العراق شعب واحد , وصوت واحد , وعائلة واحدة , وقلب واحد, وأن أمواج النهرين تتعانق وتذوب ببعضها , لتصنع أمواج شط العرب , وتبعث روائع الحياة والأمل والخلود على ضفتيه.

فالعراقي لا يمكن إعادة تصنيعه , بوسائل الإعلام ومؤسسات تكوين الآراء , وتقنيات غسل الأدمغة وتدمير النفوس, لأنه مصنوع  في براكين الحضارات ومصهور ومسبوك بطريقة فولاذية , ولا يمكن تفكيك أجزاءه وتركيبها وفقا لإرادة مَن يشاء.

هذه حقيقة تأريخية كبرى وساطعة , يقولها النهران على لسان الموج , وبحنجرة الإصرار والتحدي والتواصل إلى حيث الحياة , فلا يقف أمام إرادة النهرين حاجز مهما توهم بالقوة والثبات, فأمام قوة الجريان والتدفق لا يمكن لثابت أن يصمد دون إنهيار.

وهكذا فإن النهرين الخالدين , يبثان روح الأمل والتجدد والقوة في آفاق العراق , ويغسلان الوجوه من كل العثرات والويلات , ويفتحان أبوابا للنور والصفاء.

فليغني الشعراء على هدى الأمواج, ولتطرب الأطيار, وتتهادى المشاحيف , وتسكن الروح وتهدأ النفس ويفرح الفؤاد , فأينما يوجد الماء تكون الحياة, وعندما يجري الماء يكون الطيب والنقاء , ولا يمكن للزمن إلا أن يساند النهرين , ويمضي معهما في رحلة التجدد والبقاء.

ولهذا نادى جلجامش في رحلة البحث عن الخلود , إنه المستحيل الأكبر أن تنتصر القوة على النهرين , وأن يتحقق البقاء الأرضي من غير العمل والإبداع والتلاحم الخلاق بين البشر, وتأكد له بأن الحركة أقوى من الخلود وأعظم من الأبد, فتجرد عن ذاته وذاب مع أبناء مملكته , كما يذوب دجلة والفرات ببعضهما فحقق التسرمد الإنساني , وأطلق جوهر رسالة الوجود , لتكون فعلا إبداعيا منيرا على مر الأزمان.

وتبقى رسالة جلجامش , المنبعثة من وعي إرادة النهرين , ورسالتهما الحضارية في الأرض , دستورا إبداعيا خلاقا لديمومة الفعل الإنساني , من خلال الحب والعمل والأمل والصفاء والتآخي والنماء.