لا أصعب من الإفراط في التفاؤل الذي سيفضي لا محالة إلى خيبة أمل طاحنة. لذا، يخطئ من يظن أننا، مع انسحاب المالكي، قد انتقلنا من منطقة الأسود إلى الأبيض.
نحن الآن في المنطقة الرمادية، حيث الموقف مفتوح على شتى الاحتمالات. ما يبدو واضحا تماما أننا ما زلنا تحت طائلة المحاصصة. كل ما نأمله أن تكون القوى السياسية الممسكة بزمام الأمور قد تعلمت الدرس، وإن كان عبر دمائنا وأموالنا، فتكف عن الدفع بأعضائها من الصف الأول لشغل مقاعد المسؤولية بعد أن ثبت فشلها وفسادها.
لا نريد أن نرى أيا من الوزراء السابقين وكبار المسؤولين في أجهزة الدولة يعود مجددا لتولي منصبه. لابد أن يكون هناك، من بين تلك الأعداد الكبيرة المنضوية تحت لواء هذا الطرف أو ذاك، من هو كفوء ومؤتمن على المال العام بل وعلى أرواح البشر ومصائرهم كي تناط به المسؤولية.
واضح أيضا أننا ما زلنا في إطار حزب الدعوة الذي قاد العراق لثلاث ولايات كانت مليئة بالدم والاحتراب والفشل والفساد الإداري والمالي وأخيرا الفشل العسكري. وإذا كان المالكي قد تفرد بالقرار، تبقى هذه مسؤولية حزب الدعوة الذي جاء منه إذ أننا لم نسمع، طيلة تلك السنوات، صوتا دعويا واحدا ينتقد ما يدور في العراق. وهي أيضا مسؤولية التحالف الوطني، الذي انتزع المنصب من إياد علاوي بحيلة قانونية مفضوحة، إذ لم يفلح في إيقاف اندفاع المالكي وبطانته إلى التهام السلطات والصلاحيات، واحدة اثر أخرى.
إذن، والوضع المأساوي ماثل أمامنا، ومن أجل أن نصدق أن صفحة جديدة قد فتحت، لابد من إعادة الزمن إلى وراء، بمعنى إلغاء كل القرارات والتدابير الاستثنائية التي أوجدها التفرد بالحكم.
ينبغي أولا العودة إلى الصيغة الدستورية التي تنص على منصب رئيس مجلس الوزراء لا رئيس الوزراء، بمعنى أن هناك هيئة تضطلع بمسؤولية جماعية لإدارة البلاد. صحيح أن لرئيس مجلس الوزراء دورا أساسيا وصلاحيات حددها الدستور، إلا أن ذلك لابد أن يمر عبر مجلس الوزراء لا عبر مكتب رئيسه ليذهب مباشرة إلى التنفيذ.
لا نريد بعد اليوم أن نرى وزيرا يقول لنا ان اجتماعات مجلس الوزراء روتينية لا تعرض فيها القرارات المفصلية التي يتخذها رئيسه. يقولها بملء فمه ولا يرى فيها انتقاصا من منصبه الوزاري ولا حتى كرامته الشخصية.
كما ينبغي للبرلمان أن يعود إلى ممارسة دوره التشريعي والرقابي كاملا، بما في ذلك اقتراح القوانين وتشريعها، والرقابة الفعلية على أداء مؤسسات الدولة كافة بما فيها رئيس الوزراء ومكتبه. لا نريد بعد اليوم أن نسمع أن مسؤولا في الدولة يتمرد على سلطة البرلمان فيرفض المثول أمامه.
وعلى الرغم من أننا نعرف جميعا أن عددا غير قليل من النواب قد دخل المجلس عن طريق التزوير وتوزيع سندات الأراضي الوهمية ونثر الأموال الطائلة والضغط المعنوي لسلطة جهاز الدولة، فإن متغيرا مهما قد طرأ على الموقف، وهوان النواب قد تخلصوا من ذلك السيف الذي كان مسلطا على رقابهم، سيف التهديد بالمادة 4 إرهاب وملفات الفساد ومذكرات إلقاء القبض. من هنا سوف افترض أن الأداء سيكون أفضل بكثير لأداء مهمات طال تأجيلها أو تخريب فاعليتها طيلة سنوات.
هناك مهمة أمام رئيس مجلس الوزراء عسيرة لكنها آنية، وهي مهمة تفكيك مكتبه الذي تحول إلى إمبراطورية مدت نفوذها إلى كل مفاصل الدولة بل وتحولت إلى مصدر رعب لكبار المسؤولين، مدنيين وعسكريين. هذا مكان يعج بآلاف الفاسدين والفاشلين والأميين، سياسيا وإداريا، ومن أسبغت عليهم صفة مستشار لأغراض التكسب في مقابل الولاء. سيكفي حيدر العبادي عدد قليل من المستشارين الحقيقيين ومجموعة من الموظفين لأداء مهمات إدارية بحتة، وعلى الآخرين أن يعودوا من حيث أتوا.
كل ما تقدم سيكون بلا معنى إن لم يصدر عن طاقم الحكومة خطاب تهدئة يطمئن الشركاء الذين ابتعدوا عن بغداد نتيجة سياسة هوجاء لم تقدر أهمية دورهم.