دولة الوطن والمواطنة ,ودولة الانتماء الإنساني

 

يعود مفهوم المواطنة قديماً الى زمن الديمقراطية الاغريقية ,حيث يرجع اصل استعمال المفهوم للحضارتين اليونانية والرومانية ,فقد استعملت الفاظ دولة المواطنة والوطن في الحضارتين ,لأن الحكومة اليونانية في ماضيها كانت دولة مدنية ,والسبب ان هنالك استقلالية في سلطة للقانون لايؤثر عليها اي احد,القانون يستطيع معاقبة المسيئين الذين يهددون السلم الاهلي والاجتماعي والقصاص منهم, وحيزاً لحرية الفكر والرأي وتقبل الرأي الأخر،وظهور فلاسفة ومفكرين يفسرون ويشرحون منهج الدولة والية عملها لأفراد المجتمع بشكله الصحيح مما يصعب فهمه وأدراكه,وشعور المواطن بمواطنته هو التزام اخلاقي مع الذات ومع الافراد لتدبير شؤون المجتمع قوامه الحب والتعاون والاصلاح ورافده انتعاش ضمان الحقوق المترتبة كفرد وهي الحقوق السياسية والاجتماعية والمدنية والاقتصادية التي من خلالها يحدد وضع الفرد في المجتمع ،وعندما تتوفر مقومات الدولة المدنية في دولة المواطنة ,يعني ان هنالك شعور ورغبة حقيقي في تقبل الاخر للعيش بسلام وأطمئنان،فالمجتمع المتفهم المدرك لحقيقية طبيعة الامور هو الذي يبني الدولة ويضع ركائزها ،فأرسطو يؤكد على ان المجتمع لا يقوم مالم يتصرف أفراده بشكل عقلاني لتحقيق الخير المشترك للمجتمع فخير الدولة العادل والمتساوي والذي لايفرق في العطاء يكون بالطبيعة خيراً للفرد .
فالوطن هو اية بقعة من الارض يسكنها (يستوطنها ) الانسان فيتخذها مقراً فهي وطنه ,فهو مكان اقامة الانسان ومقره واليه انتماؤه به ولد ام لم يولد ,وجاءت كلمة الديار مرادفة لكلمة الوطن في القران الكريم وهي تشير الى الدوران والتنقل من سكن لآخر ووجود مصالح وثقافة وروابط وتاريخ مشترك يربط بين ابناء الوطن الواحد كثيرة هي القواسم المشتركة بيننا وبين الاخرين الذين نختلف معهم في الدين فالجامع الرئيسي هواننا نسير ضمن خط واحد اسمه (الانسانية ) كما تجلى حب الوطن بأعلى صوره يوم الهجرة، بعد أن خرج الرسول من مكة، ووقف على حدودها، والتفت إليها وقال: (ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك) ,وقد مارست اليمن نظاماً شورياً منذ آلاف السنين ليسبق بذلك كل الأمم والشعوب في العالم ، وهو ما أكده القرآن الكريم في قصة الملكة بلقيس مع الملك سليمان « قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة امرأ حتى تشهدون » ويشير الكثيرون من الباحثين والآثاريين إلى أن ملوك سبأ قد مارسوا الديمقراطية الشوروية وعرفوا البرلمان وكانت لهم قاعة أشبه بقاعة البرلمان التي تم اكتشافها في مدينة مأرب قبل سنوات,أن اليمنيين كان لهم نظام ديمقراطي راقٍ منذ سنوات بعيدة، ويقول: « قبل أن تأخذ أثينا اليونانية بالنظام الديمقراطي المحدود بمئات السنين، وقبل أن تعرف حضارة روما نظام مجلس الشيوخ بأكثر من ألف سنة، كانت دولة وحضارة سبأ الأولى تعيش نظاماً ديمقراطياً اشمل وأرقى من ديمقراطية أثينا، ولم تبلغه روما» .
فقد كان « مجلس الاقيال الثمانين » في تلك الدولة وعصور ملوك سبأ التبابعة، برلماناً تشمل اختصاصاته التشريع المركزي ومراقبة السلطة التنفيذية وانتخاب وتنصيب الملك، بل كانوا إذا قرروا عزل الملك القائم عزلوه وانتخبوا واحداً منهم ملكاً للبلاد.
وأن القاعة التي اكتشفتها بعثة أثرية أمريكية في بنيان محرم بلقيس لم تكن إلا مبنى وقاعة لمجلس الاقيال الثمانين « برلمان دولة سبأ » معرفاً الاقيال بأنهم المشايخ أو وجهاء القوم , تعود الحكاية إلى العام 1952، حيث قامت بعثة آثارية أمريكية برئاسة / ويندل فيلبس / بالتنقيب في أطلال البنيان السبئي الذي شاع تسميته باسم « محرم بلقيس » والذي اتضح انه كان يضم عدة مبانِ منها « معبد اوام » والقاعة التي وصفها رئيس البعثة في كتابه بأنها قاعة كبيرة معقدة الشكل فيها بقايا بنايات على شكل مقاعد «كراسي» تقع في ثمانية صفوف طويلة، وتوجد في جدار القاعة سلسلة مثيرة للاهتمام من النوافذ الصناعية يبلغ عددها 64 نافذة منقوشة، وكان السقف على جوانب القاعة محمولاً على 32 عموداً، وللقاعة بابان احدهما يؤدي إلى المعبد والثاني إلى باب كبير ذو ثلاث قطع مقام بين عمودين كبيرين ويفضي إلى قاعة خارجية، وكانت الأبواب والإطارات والمدخل بأكمله والدراج مغطاة برقائق تم انتزاعها في عصور لاحقة. فقد تجلت اروع القيم التي تحترم المواطنة في دولة مدنية ووطن تسوده لغة المحبة والتسامح والسلام في فكر الرسول الاكرم (ص) فسنة الرسول وخطه الالهي كله رحمة وأخلاقا وعدلاً مع المسلمين وغيرهم ,لانها امتداد من السماء الى الارض ،ولذا فأن اول دعائم الدولة ان يقدم رجالاتها الوفاء بالعهود التي قطعوها مع الآخرين فالكلام هو التزام خلقي ووصية الرسول للامام علي (ع) (وإيّاك والغدر بعهد الله والإخفار لذمّته، فإنَّ الله جعل عهده وذمّته أماناً أمضاه بين العباد برحمته، والصبر على ضيق ترجو انفراجه، خير من غدر تخاف أوزاره وتبعاته وسوء عاقبته ) ، فالرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم قد التزم بعهوده ومواثيقه حتى مع غير المسلمين، كما حدث مع نصارى نجران الذين طلبوا منه (ص) أن يكتب لهم عهداً، وذلك بعد انصرافهم عن مباهلته، فكتب الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) كتاباً بأمر الرسول (ص) جاء فيه: (لهم بذلك جوار الله وذمة النبي رسول الله على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وبيعهم ورهبانيتهم على أن لايعشروا ولا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا به فمن أكل الربا منهم بعد ذلك فذمتي منه بريئة ) والشيء نفسه حصل في صلح رسول الله (ص) مع صاحب أيلة، ومن كان معه من أهل الشام، وأهل اليمن، وأهل البر والبحر، الذين دخلوا في ذمة الله، وذمة رسوله (ص)، وكان لهم حرية العقيدة، وأن لا يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقاً يريدونه ,وذات يوم وهو يخطب على المنبر امير المؤمنين في الكوفة: (أيها الناس لولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس إلاّ أنَّ لكل غدرة فجرة، ولكل فجرة كفرة، ألا وإنَّ الغدر والفجور والخيانة في النار) فكيف بأولئك الذين ينقضون العهود والمواثيق وبحجج تختلف مع اختلاف المصلحة والأهواء الشخصية , فقد كانت وثيقة المدينة عنواناً واضحاً يشتمل على معايير تدور في فلك احترام المواثيق والعهود الإنسانية ,فلم يقصي اسوداً ,أواشقراً ,أواسمر اللون الجميع يقف معهم الرسول بنفس المسافة المتساوية , وهاذ ما اكده المهاتما غاندي صاحب المقامومة اللاعنفية السلمية عندما وصف نجاح منهج الرسالة الاسلامية ودور الرسول بها بقوله (أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يملك بدون نزاع قلوب ملايين البشر ,لقد أصبحت مقتنعا كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها إكتسب الإسلام مكانته، بل كان ذالك من خلال بساطة الرسول مع دقته وصدقه في الوعود وتفانيه وإخلاصه لأصدقائه وأتباعه وشجاعته مع ثقته المطلقة في ربه وفي رسالته ,هذه الصفات هي التي مهدت الطريق. وتخطت المصاعب وليس السيف ) .
ان مفهوم المواطنة له ابعاد متعددة تتكامل وتترابط في تناسق تام من حيث البعد القانوني الذي يتطلب تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم استناداً الى العقد الاجتماعي الذي يوازن بين توفير مصالح الفرد والمجتمع ,وبعد اقتصادي اجتماعي يستهدف اشباع الحاجيات المادية الاساسية للبشر من خلال توفير الحد الادنى اللازم منها ليحفظ كرامتهم وانسانيتهم ,وبعد ثقافي الذي يهتم بالجوانب الروحية والنفسية والمعنوية للافراد والجماعات على اساس احترام خصوصية الهوية الثقافية لكل تجمع انساني بعيداً عن محاولات التسقيط والتهميش لكل مكون , ففي اية دولة متحضرة في العالم يترتب التمتع بالمواطنة سلسلة من الحقوق والواجبات تتركز على قيم محورية وهي قيمة المساواة والتي تعني ان الجميع متساوون امام القانون واالقضاء ولديهم حق الحصول على التعليم والعمل والصحة والجنسية,وقيمة الحرية التي تنعكس في العديد من الحقوق منها حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر والطقوس الدينية ,وحرية التنقل داخل الوطن والحديث والمناقشة بحرية مع الاخرين وضمن الضوابط التي لاتسمح بالتجاوز على مايعتقده ويؤمن به كل انسان ,وحرية التاييد والاحتجاج على قضية أو موقف وفق مايحدده دستور اي بلد ,والمشاركة في المؤتمرات او للقاءات ذات الطابع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي, وقيمة المشاركة التي تتضمن العديد من الحقوق منها الحق في التصويت للانتخابات العامة بكافة اشكالها وكذلك الترشيح في الانتخابات العامة وبمختلف انواعها ,والحق بتنظيم حملات الضغط السلمي المسؤولين على  الدولة لسوء أدارتهم للمراكز المناطة بهم , ولتغيير سياسة الحكومة او برامجها اوبعض قرارتها لانها لاتتماشا مع طبيعة الظروف ومتغيراتها التي يعيشها الشعب ,وممارسة كل اشكال الاحتجاج السلمي المنظم مثل التظاهر والاضراب كما ينظمها القانون ,وقيمة المسؤولية الاجتماعية مثل دفع الضرائب ,وتادية الخدمة العسكرية والدفاع عن الوطن للحفاظ على امنه واستقراره ,واحترام القانون الذي يسري فوق الجميع وبدون استثناء,وخصوصية الآخرين , ان الدول المتقدمة والمتحضرة لاتنجح في تسير امورها نحو الرفاه والازدهار الا بإشراك المواطن ببناء مؤسساتها وتكون له بصمة واضحة فيها من خلال علاقة الحقوق والواجبات بينه وبين الوطن فالمسؤوليات الطوعية تحتم عليه المشاركة في تحسين الحياة السياسية والمدنية ,والنقد البناء للحياة السياسية لتقويم اداؤها لاذاك النقد الذي يعتمد الطعن بهيبة الدولة وسرقة مؤسساتها الرسمية ,وحماية الموارد الطبيعية والممتلكات العامة من العبث والاستنزاف ,والاخبار دون تأخر عن حالات الاضرار والتجاوز على المال العام ,هذه الواجبات هي اللبنة الاولى والاساسية التي تشعر المواطن بأنه في دولة مدنية يحكمها القانون وليس لأحد ان يكون فوقه بما في ذلك واضعوه ,ان ملك الدولة يساوي ملك الشعب وثقافة السرقة التي تبيح للاخرين نهب اموال وممتلكات المال العام على اعتبار انها امواله ,مؤكد انه مفهوم خاطئ لأن السرقة في كل تآويلها وتفسيرها هي سرقة فلا يوجد هنالك كذب ابيض واسود ،هذا يحتاج لعملية انقاذ لمفهوم ملكية الدولة من اباحة السطو والاعتداء وتنقية الكثير من المفاهيم لما شابها وعلق بها من تلوث فكري بسبب النظام البائد الذي اراد تغيير فلسفة المواطنة الصالحة الولاء للوطن بالولاء له ولدولته القائمة على سلب حريات وكرامات الناس ,انقضت تلك المرحلة وما بها من اوجاع والآلام وكان الخاسر الاكبر هو الفرد العراقي بفقدانه جزء كبير من قيمه ومبادئه التي تغيرت وأصبحت عرضة لتقلبات الواقع وحسب ما تشتهيه الرياح العاتية والأعاصير المدمرة, لقد تبقى جزء يسير وبسيط من صمود المواطن العراقي يريد ان يستخدمه في أوقات الشدة والازمات ليحدد قراره الذي ينطلق منه لبناء مستقبله الذي ظل يتأرجح بين مآسي الأمس ومحن اليوم .