الظلم من طبائع الإنسان إلا أن عفوه عن الآخرين يمكن أن يرد إلى صفة أخرى مضادة لصفة الظلم أو قد تكون محكومة بالباعث الذي يتسبب في التخلص من الصفات السلبية، وقد يعود الحكم في ذلك إلى الوازع الديني أو منزلة الإنسان ومكانته، ومن هنا فقد يحصل على التوازن الذي يتغلب بواسطته على تلك الصفات السلبية إذا ما أراد الدخول في الحياة العامة التي يكون لها الأثر الفاعل في توجيه تلك الصفات إلى المجموع الذي يأخذ طرقاً أخرى وتشعبات شتى بخلاف الإنسان الذي يجانب هذا السلوك بسبب عزلته عن الآخرين، علماً أن الله تعالى لا يحاسب الإنسان على هذه الصفات ما لم تظهر نتائجها على أرض الواقع، ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم) ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يمسك نفسه عند الغضب. ومن هنا فإن الله تعالى عندما أشار إلى صفات النبي بين أنه بالمؤمنين رؤوف رحيم أي إن بره في موقعه، أما إذا استدعى الأمر خلاف ذلك فلا موجب لهذه الرحمة التي ستوضع في غير موضعها، ولهذا قال تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة 128. فبين تعالى أن هذه الصفات الحميدة التي يمتاز بها النبي هي من نصيب المستحق لها، كما هو الحال مع النخبة المؤمنة الذين بين صفاتهم القرآن الكريم في قوله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين أمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً) الفتح 29.
والرحمة التي أشارت إليها آية سورة الفتح لا يمكن حملها على الصفات الخارجة عن إرادة الإنسان إنما هي عطاء رباني يهبه الله تعالى للخاصة من عباده نتيجة ما سلف من أعمالهم الصالحة ولذا قابلها بالشدة التي سيكون مصداقها في الكفار المشار إليهم في الآية فتأمل. ولهذا فإن الله تعالى نسب إلى نفسه الرحمة التي وهبها للنبي علماً أن الموقف كان يقتضي عدم الرحمة وعدم اللين مع قوم كانوا للتردد أقرب منهم للجهاد، وقد أمضى الله تعالى صفات النبي التي لا تنفك عنه والتي تلازمه دون أن تفرض عليه، كالعفو والاستغفار لأتباعه ومشاورتهم في الأمر، والتوكل على الله تعالى. وهذه هي صفات القائد الفاعل في أمته وهذا هو
النهج المستقيم الذي كان عليه رسول الله حتى أصبح المثل الأعلى للولاية العامة التي تعتمد الشورى وعدم القطع بالرأي وهذه هي الآداب التي لا تنفك عنه، ولذا صرح بها (صلى الله عليه وسلم) في قوله: أدبني ربي فأحسن تأديبي، ولهذا فقد نجد أن الآيات التي تبين هذا الخلق تجتمع جلها على المكونات الأساسية للارشادات التي يتصف بها القيادي الناجح في أمته، كما في قوله تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) الأعراف 199. وكذا قوله: (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) الشعراء 215. وقوله: (وإنك لعلى خلق عظيم) القلم 4. وخلاصة هذه الصفات التي بينها الحق تبارك وتعالى تكمن في جانب اللين وخفض الجناح لمن اتبعه من المؤمنين، أما خلاف ذلك فإن النتائج يمكن أن تكون أبعد من أن تنال بالأمنيات التي يطمح القائد للوصول إليها وتحقيقها ولهذا قابل الله تعالى هذا الجانب بجانب البعد عن الفظاظة والشدة وإن كانت الدواعي المتأصلة في هذه الصفات لا تفارق الإنسان إلا عند عدم تحققها في الخارج مما يجعل تحقيق الغايات بعيداً عن القهر الطارئ الذي لا تحسب الأمة حسابه على الرغم من الحالات الخطيرة التي تمر بها والمراحل الصعبة التي تعيشها.
والذي يمكن أن نستشفه من سياق الآيات التي قرنت بآية البحث أن هذه الآية تبين حال الأمة في معركة أحد وما أصاب المسلمين من هزيمة بسبب التردد الذي حصل من بعضهم، ومن هنا كان الأمر الإلهي الموجه للنبي يحمل في ثناياه العلاج لأتباعه لأجل استعادة معنوياتهم وتحمل ما ألقي على عاتقهم، ولهذا فإن الأمر باللين يمهد للمخلفين منهم العودة إلى ما كانوا عليه قبل فوات الأوان، فكان مجموع الأوامر الملقاة إلى النبي أقرب إلى إعطاء الفرصة الثانية للمخلفين والمتمردين، ومن جهة أخرى تبرز الصفات الحميدة التي يتصف بها النبي إضافة إلى فتح باب المشاورة في أمر الحرب أو ما يتعلق بمستجدات الأمور دون اتخاذ القرار الخاص بالنبي وإن كان قراره لا يجانب الصواب إلا أن الله تعالى أراد أن يجعل هذا النهج سنة عامة يجب اتباعها في كل زمان ومكان، وبنفس الوقت يجعل الأمة لا تتخلف عن مسارها الصحيح لأجل اشعارهم بأهميتهم التي ظن البعض أنها فقدت جراء الهزيمة، مما يشيع المودة بينهم وصولاً إلى التأليف بين قلوبهم.
فإن قيل: هل يمكن أن تدخل الأحكام الإلهية الملقاة على النبي في المشاورة؟ أقول: لا تدخل الأحكام في المشاورة لأنها خاصة في أمر الحرب أو أمور الدنيا التي يمتاز بها أصحاب النبي حسب معرفة كل واحد منهم، أما الأحكام التي تخرج عن اختصاصهم فهي غير داخلة في هذا
الجانب ولهذا يمكن إبداء الآراء التي تكون قابلة للمداولة بين أتباع النبي وصولاً إلى اشراكهم في الأمر المشار إليه في قوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) آل عمران 159. هذا ما لدينا وللمفسرين في الآية آراء:
الرأي الأول: يقول الزمخشري في الكشاف: معنى الرحمة: ربطه على جأشه وتوفيقه للرفق بهم حتى أثابهم غماً بغم وآساهم بالمثابة بعد ما خالفوه وعصوا أمره وانهزموا وتركوه (ولو كنت فظاً) جافياً (غليظ القلب) قاسيه (لانفضوا من حولك) لتفرقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد منهم (فاعف عنهم) فيما يختص بحق الله اتماماً للشفقة عليهم (وشاورهم في الأمر) يعني في أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك فيه وحي لتستظهر برأيهم، ولما فيه من تطييب نفوسهم والرفع من أقدارهم، وعن الحسن رضي الله عنه: قد علم أنه ما به إليهم حاجة، ولكنه أراد أن يستن به من بعده، وعن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (ماتشاور قوم قط إلا هدو لأرشد أمرهم).
الرأي الثاني: قال أبو حيان في البحر المحيط: (فبما رحمة من الله لنت لهم) متعلق الرحمة المؤمنون، فالمعنى: فبرحمة من الله عليهم لنت لهم، فتكون الرحمة امتن بها الله عليهم، أي دمثت أخلاقك ولان جانبك لهم بعدما خالفوا أمرك وعصوك في هذه القراءة وذلك برحمة الله إياهم، وقيل: متعلق الرحمة المخاطب النبي (صلى الله عليه وسلم) أي: برحمة الله إياك جعلك لين الجانب موطأ الأكناف، فرحمتهم ولنت لهم، ولو تؤاخذهم بالعصيان والفرار وإفرادك للأعداء، ويكون ذلك امتناناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون متعلق الرحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعله على خلق عظيم، وبعثه بتتميم محاسن الأخلاق، والمؤمنين بأن لينه لهم. وما ههنا زائدة للتوكيد، وزيادتها بين الباء وعن ومن والكاف، وبين مجروراتها شيء معروف في اللسان، مقرر في علم العربية، وذهب بعض الناس إلى أنها منكرة تامة، ورحمة بدل منها، كأنه قيل: فبشيء أبهم ثم أبدل على سبيل التوضيح، فقال: رحمة، وكان قائل هذا يفر من الاطلاق عليها أنها زائدة، وقيل ما هنا استفهامية، ويضيف أبو حيان: قال الرازي: قال المحققون: دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين غير جائز، وهنا يجوز أن تكون ما استفهامية للتعجب تقديره: فبأي رحمة من الله لنت لهم، وذلك بأن جنايتهم لما كانت عظيمة ثم إنه ما أظهر البتة تغليظاً في القول، ولا خشونة في الكلام، علموا أن هذا لا يتأتى إلا بتأييد رباني قبل ذلك. انتهى كلامه. ثم أضاف صاحب البحر: وما قاله المحققون صحيح لكن زيادة
ما للتوكيد لا ينكره في أماكنه من له أدنى تعلق بالعربية، فضلاً عن من يتعاطى تفسير كلام الله، وليس ما في هذا المكان مما يتوهمه أحد مهملاً فلا يحتاج ذلك إلى تأويلها بأن يكون استفهاماً للتعجب.
الرأي الثالث: يقول الطوسي في التبيان: قوله: (فبما رحمة من الله) معناه فبرحمة، وما زائدة باجماع المفسرين، ذهب إليه قتادة، والزجاج، والفراء، وجميع أهل التأويل، ومثله قوله: (عما قليل ليصبحن نادمين) فجاءت (ما) مؤكدة للكلام وسبيل دخولها لحسن النظم، كدخولها لاتزان الشعر، وكل ذلك تأكيد ليتمكن المعنى في النفس، فجرى مجرى التكرير، قال الحسن بن علي المغربي عندي أن معنى (ما) أي وتقديره فبأي رحمة من الله، وهذا ضعيف، ورحمة مجرورة بالباء ولو رفعت كان جائزاً على تقدير فيما هو رحمة، والمعنى: أن لينك لهم مما يوجب دخولهم في الدين، لأنك تأتيهم بالحجج والبراهين مع لين خلق. ويضيف الطوسي: وقوله: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) فالفظ الجافي والغليظ القاسي، يقال فيه فظظت تفظ فظاظة، وهو على وزن فعل إلا أنه أدغم كظب، وأصل الفظاظة الجفوة، ومنه الفظاظة، ومنه الفظاظ: خشونة الكلام، والافتظاظ: شرب ماء الكرش لجفائه على الطباع، وقوله: (فظاً غليظ القلب) إنما جمع بين الصفتين مع اتفاقهما في المعنى، لإزالة التوهم أن الفظاظة في الكلام دون ما ينطوي عليه القلب من الحال، وهو وجه من وجوه التأكيد إذ يكون لإزالة الغلط في التأويل ولتمكين المعنى في النفس بالتكرير، وما يقوم مقامه. انتهى.
وما أشار إليه من الجمع الذي يزيل التوهم كثير في القرآن الكريم كقوله تعالى: (ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود) فاطر 27.
|