العراق تايمز: وكالات..
ملابسه ممزقة. وجهه كلوح طين جاف. قدماه حافيتان تكادان أن تتكسرا على الأرض. للتو ألقت به طائرة المساعدات، هنا في هذه الأرض الخضراء الهادئة، شرق مدينة دهوك الكردية، فيفتح عينيه ويدقق في الوجوه والسيارات: أين «داعش»؟ يقول أنور دوملي، الشاب اليزيدي الذي حالفه الحظ في الفرار من جبل سنجار، أو «شنكال» كما يلفظها كرد العراق، إنه لم يستطع اصطحاب والدته، لأنها ببساطة ماتت هناك من الجوع والمرض، «دفنتها هناك، ثم رميت نفسي في طائرة عراقية وهربت (...) شكراً لله، لأنها لم تُسبَ». وسقط باكياً. لم يكن دوملي، هو الشخص الوحيد الذي وصل دهوك. فالمحافظ الكردي، فرهاد أتروشي قال لـ «الحياة»، إن المدينة رفعت حالة الطوارئ، والمدينة لم تعد تتحمل عدداً أكبر من النازحين. المحافظ كان يشتكي من مصاعب تحول دون وصول المساعدات الدولية، بسبب «بيروقراطية الأمم المتحدة»، كما يقول. لكن دوملي، الذي يستعد للوقوف، للمرة الأولى منذ أن وصل دهوك، ومحاولاً الاتكاء على عامل في إحدى حملات الإغاثة، حين سألته عن المساعدات الإنسانية، قال، «قنينة ماء وأغذية معلبة، لن تمنع «داعش» من قتل المزيد، أو اخذ النساء إلى جهة مجهولة». يمشي دوملي قليلاً، ويكتشف أنه وسط رقعة كبيرة من الأرض يكسوها الهاربون من «داعش»، ليسوا جميعهم من الأيزيديين، هناك أعداد كبيرة من المسيحيين والشبك، شملتهم حملات التطهير التي قادتها «داعش». ليالٍ على الجبل ما الذي كان يحدث حين كنتم محاصرين؟، سألته. قال: «بعضنا تناول نباتات جبلية، صنعنا من جلود حيوانات ميتة أحذية للأطفال، الوجوه تتآكل، وشهدنا لحظات بعضنا الأخيرة حين لم تسعفه قطرة ماء». «يبدأ اليوم بالبحث عن أخاديد في الجبل تصنع لنا الظل، هرباً من شمس حارقة. نجمع الأطفال والنساء في أماكن يصعب الوصول أليها، ونتحرك بحذر بين القمم المتعددة للجبل». ويبدو أن وصول مقاتلين من حزب العمال الكردستاني، كان يشبه وصول المنقذ إليهم. يقول دوملي: «كان عددهم قليلاً، كانوا مسلحين جيداً، بين صفوفهم نساء سارعن إلى تقديم المساعدة للأطفال، لكن مقارنة بعديد مسلحي «داعش»، لم نكن لننجح في حال قرروا صعود الجبل والوصول إلينا». في الأيام اللاحقة، وصلت دفعات من المساعدات الإنسانية، بعضها جاء مع مقاتلي العمال الكردستاني، وبعضها حملته إلينا طائرات عراقية أو أجنبية. يقول دوملي: «كان على الأيزيدي منا في الجبل أن يحتفظ بقنينة الماء الواحدة ليومين، حتى لا يموت عطشاً». فيلم رعب كان دوملي تعباً، قال: «كم قنينة ماء شربت حتى الآن؟». قال زميله الذي هبط في دهوك في الطائرة ذاتها ضاحكاً: «لقد شربت حصتي أيضاً». وعلى مسافة قريبة كان موظف كردي يطلب منهم الانتقال إلى مخيم قريب. كان الجمع الذي يسير إلى المخيم الموقت، كالسائرين في نومهم، يلتفتون اليمين والشمال، كأنهم يحتسبون مسلحاً وراية سوداء لدولة الخلافة تباغتهم فجأة. يقول خدر حسين، وهو شاب أيزيدي تمكن من الهرب منذ الأيام الأولى إلى سورية ومن ثم إلى فيش خابور، في الطريق إلى إقليم كردستان، إنه شارك في حماية المحاصرين في الجبل. «كان لدينا عتاد وسلاح قليل. نصبنا نقاطاً عند الطرق المتلوية في جبل سنجار، وفي مواقع مرتفعة يمكننا منها مشاهدة الوادي، في حال تحرك مسلحو «داعش» إلى الجبل»... يقول حسين. ويبدو أن الطبيعة الجغرافية لجبل سنجار أنقذت المحاصرين فيه، إذ يتطلب الوصول إلى القمة عبور نحو ٢٠٠ طريق ملتوية. ويقسم الجبل الحدود الادارية لسنجار إلى قسمين، هما جنوب الجبل وشماله، وفي قسمه الجنوبي وقريباً من الحدود السورية يقع مجمع سيبايه شيخ خدر «مجمع الجزيرة» ومن ثم كري عزير «القحطانية» وكرزرك «العدنانية»، صعوداً إلى الجبل حيث تقع قرية رمبوسي. أما مركز مدينة «شنكال» فهو النقطة الاقرب الى الجبل جنوباً، اذ لا يبعد سوى مئات الأمتار من هضبتها، مجمعات تل قصب «البعث سابقاً» وتل بنات «الوليد»، اضافة الى قريتي «الحاتمية وكوجو»، وقرى صغيرة اخرى تقع في الجنوب الشرقي من الجبل. في شمال الجبل وبالتماس مع الحدود السورية، تقع على التوالي مجمعات خانصور وناحية سنوني ومجمع دوكري ومجمع دهولا وبورك «اليرموك» وكوهبل وزورافا وحردان. يقول حسين: «كنا نراهم في عجلات رباعية الدفع، يلفون الجبل بحثاً عن طريق سهل، حتى حلّت المجزرة». في تلك الفترة كان الإعلام الكردي، ينقل أنباءً عن تقدم قوات البيشمركة إلى سنجار، وراحت بعض تلك الوسائل تقول، إن البيشمركة وصلوا بالفعل إلى المدينة، التي يبعد مركزها عن أحد سفوح الجبل نحو ٢٠٠ متر فقط. يضع حسين يديه على وجهه محاولاً إخفاء الدموع، لقد كان يهتز من شدة البكاء، «وصلنا خبر تحرير سنجار، فرح الناس وقرر العشرات النزول إلى المدينة، لكن لم يجدوا في النهاية أي عنصر من القوات الكردية». لقد اعترض مسلحو «داعش» طريقهم، واصطحبوهم إلى ساحة كبيرة في سنجار، وثّقوا أياديهم على الأرض منبطحين على وجوههم، وانهالوا عليهم بالرصاص. كان دوملي وأنور ينقلان هذه الرواية عن سيدة تبلغ من العمر ٩٠ عاماً جعلها المسلحون تقف لتشاهد كيف يقتل أبناؤها، وأعادوها إلى الجبل. جثث منتفخة وصل أخيراً فريق إغاثة إلى البلدة، ربما كانت من الحالات النادرة التي يصل فيها مثل هذا الفريق، منذ اندلاع الأزمة، ربما بسبب الضربات الجوية التي عالجت مواقع المسلحين الذين يحاصرون الجبل. كان الفريق يحمل كميات كبيرة من المساعدات جمعها من عائلات عراقية في بغداد والمحافظات. يقول أحمد آغا، أحد منظمي حملة «غوث» الإنسانية: «كانت الجثث منتفخة في شوارع بلدة سنجار(...) قال لنا أحد المسلحين الذين ينتمون الى عشيرة ساعدت «داعش» في احتلال البلدة إن هؤلاء قتلوا لأنهم رفضوا دخول الإسلام. وقال له ناجون من هجوم على قرية كوتشو في بلدة سنجار، إن مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية قتلوا عشرات الأيزيديين، بعد رفضهم التخلي عن عقيدتهم و «التحول إلى الإسلام». وقال شقيق مدير قرية كوتشو، وهو نايف جاسم، إن مسلحي الدولة حاصروا القرية لمدة 12 يوماً وأمهلوا السكان الأيزيديين فترة محددة للتحول إلى الإسلام. ويضيف: «عندما رفض السكان، بدأت عملية القتل». ويوضح أحد المصابين الناجين أن المسلحين فصلوا الرجال عن النساء والأطفال دون سن 12، وأخذوا الشباب والرجال في مجموعات، وأطلقوا النار عليهم على تخوم القرية. ويتابع: «كانوا يعتقدون أننا قُتلنا، لكن لاحقاً هربنا من الموقع، واختبأنا في القرية إلى أن حل المساء، ثم توجهنا إلى الجبال». وينقل الناشط أحمد الآغا قصصاً مروعة عن سنجار: «رأيت نحو 70 جثة منتفخة، هناك أيضاً جثث لجنود عراقيين (...) أينما تلتفت هناك جثث». ويضيف: «لقد كان مسلحو «داعش» يجمعون العسكريين في جامع الرحمن في حي يرموك في بلدة سنجار، يسألون الناس عن ديانتهم ويطلبون منهم الصلاة حتي يثبتوا إسلامهم وأنهم من السنّة». وعلى ما يقول الآغا، فإنه بعد خروجه من البلدة سمع أن الطائرات قصفت الجامع، لكن السكان قالوا إن نحو ٨٠ من العسكريين قضوا في القصف. لكن حملة «غوث»، وفق ناشطين فيها، تمكنوا من إيصال معونات إلى الجبل، تلقفها المحاصرون بأقل من ربع ساعة. يقول الآغا: «شاهدت شباباً يضعون بطاريات الهواتف على ألسنتهم، ظناً منهم أنها ستحصل على شحنة كهربائية من أجسادهم، ويتمكنون من الاتصال». كابوس النهاية في هذه اللحظة، تمكن أنور دوملي من الحصول على فراش ووسادة، وضع تحتها قنينة ماء بارد وعلبة سجائر. قال: «هل ترى ذلك الرجل الذي يرتدي بدلة عليها هلال أحمر؟ قال إن السجائر مضرة بك، لكنني توسلته ومنحني هذه العلبة (...) كأنني اليوم سأدخن للمرة الأولى». قبل أن يخلد إلى النوم، قال: «كنت أرى قوماً من البرابرة، ربما جاءوا من زمن ما قبل الإسلام. كانوا مخيفين مظهرهم كالوحوش، وسرعتهم تفوق الخيال وقدرتهم على القتل بدم بارد ستجعلني أحلم بهم ما حييت».
|