تعرضت معظم المدن العراقية خلال العقود الأخيرة الى شتى ضروب الاضرار والاهمال والتخريب . . . إذ طالت معظم معالمها العمرانية المميزة ، لاسيما العاصمة بغداد وفنون عمائرها الاسلامية وبيوتاتها التراثية التي تزين واجهاتها الخارجية الشناشيل الجميلة والرائعة ، التي تعد من المعالم العمرانية البارزة في الاحياء القديمة منها . . . وذلك بسبب التخلف في النظرة العمرانية والفنية والفكرية ، وكذلك نتيجة عدم الاستقرار السياسي والعمليات الارهابية التي طالت المدن العراقية في السنوات الاخيرة .
وتمثل الشناشيل في البيوت البغدادية التراثية بالنسبة الى العاصمة بغداد شخصيتها التاريخية والعمرانية ، لانها تجسد التقاليد المتوارثة من الماضي وتبقى إرثاً للأجيال القادمة . . . وتعتبر الاساس للهوية الوطنية والمحلية .
لذا فمن الواجب السعي الى تهيئة الدراسات والمستلزمات الضرورية لوضع الخطط السريعة لتطوير مناطق بغداد عمرانياً بما يتطلبه ابراز الجوانب الحضارية لهذه المدينة التاريخية العريقة ، والحفاظ على ما تبقى من القيم الفنية والجمالية للعمارة البغدادية لاسيما شناشيلها الرائعة ، واعادة صيانتها وترميمها ورصد واقع الارتقاء بها وإبراز الجوانب المشرقة منها . . . لتعود العاصمة بغداد الى جمالها وألقها العمراني الذي تميزت به لقرون عدة ، وبالخصوص الاحياء القديمة منها : كالكاظمية ، والاعظمية ، والشوّاكة ، والكريمات ، والبتاوين ، والفضل ، وباب الشيخ ، والمهدية ، وأبو سيفين ، والجعيفر ، والرحمانية وغيرها . . . وشوارع : الخلفاء ، والكفاح ، والشيخ عمر ، وحيفا ، وشارع الرشيد : الذي يعتبر من أقدم وأشهر شوارع بغداد التاريخية وأحد أهم مراكزها التجارية ، حيث ترك هذا الشارع بحالة يرثى لها منذ سقوط النظام عام 2003 والى يومنا هذا ، على رغم موقعه المتميز بالاضافة الى انه كان يُعد الشريان الرئيسي للعاصمة بغداد . . . اضافة الى غيره من المحلات ( الحارات ) والشوارع والازقة التي أهملت خلال العقود الاخيرة .
والشناشيل في البيوت البغدادية التراثية تماثل ( المشربيات ) في البيوت المملوكية في القاهرة . . . وتماثل أيضاً ( الرواشين ) في بيوت مدينة جدة التراثية .
وتعتبر الشناشيل من الظواهر المألوفة في البيوت البغدادية التراثية ومن معالمها الاسلامية المميزة . . . وهي الشرفات الخشبية المزخرفة المعلقة والمصطفة على الطريق العام ، حيث توفر مظلّة يحتمي بها المشاة من شمس الصيف الحارة وأمطار الشتاء . ففي بيوت الميسورين تتحول الشناشيل الى قطع فنية رائعة ، وذلك لجمال نقوشها الخشبية التي تتخللها قطع زجاجية صغيرة ملونة .
وجاء في فرهنك جديد ( المعجم الجديد ) لفريدون كار ، فارسي ـ فارسي : ان الشناشيل كلمة فارسية مركبة من ( شاه نشين ) بمعنى محل جلوس الشاه . . . ويذكر اللغوي والمؤرخ العراقي الدكتور مصطفى جواد في مجلة سومر ( المجلد 24 ، صفحة 244 ) : ان الشناشيل يطلق عليها أيضاً الأجنحة والرواشين . مفردها روشن ، وهي لفظة فارسية ومعناها الضوء ، وتعني الروشن كذلك .
والراجح ان لفظ الشناشيل أو الرواشين قد أستخدم منذ العصور الاسلامية الاولى في مدينة البصرة . وقد ورد في نهج البلاغة بشرح الامام محمد عبده صفحة ( 9 ) . . . من كلام لأمير المؤمنين الامام علي بن أبي طالب (ع) فيما يخبر به من الملاحم بالبصرة قوله : ويلٌ لسكككُم ( أزقتكم ) العامرة والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور وخراطيم كخراطيم الفيلة ( الميزاب ) . . . وقد شرح الامام محمد عبده أجنحة الدور التي شبهها الامام علي (ع) بأجنحة النسور بأنها رواشينها . . . ( ولم يكن المقصود من اشارة الامام (ع) لها في تلك الفترة الزمنية الناحية الفنية والجمالية ، وإنما تعبيراًً منه (ع) عن الاسراف الزائد في عمارة بيوت الاغنياء ، مع كون الحالة السائدة في تلك الحقبة الزمنية من بداية نشوء الدولة الاسلامية هي البساطة في بناء البيوت ) .
وقد انتقل هذا الفن المعماري الجميل والرائع من مدينة البصرة الى باقي المدن العراقية الاخرى وبالخصوص المناطق الجنوبية والوسطى منها . . . وكانت العاصمة بغداد من أكثر المدن تأثراً بالشناشيل في تزيين واجهات عمائرها وبيوتاتها خلال العهود الاسلامية .
تشيد الشناشيل أساساً على قسم من بناء الطابق الاول يضاف الى المساحة الأساسية للبيت ، وذلك عن طريق احداث بروز يستند الى روافد خشبية أو معدنية . وعندما يتسع البروز نسبياً ، يعمد المعمار الى تدرج ألواح الخشب أو الروافد ، ليمكنه الحصول على نقاط استناد قوية تشيّد فوقها الشناشيل ، ويبلغ البروز عادةً متراً واحداً أو أكثر بقليل .
ويتم صنع الشناشيل من الخشب بدلاً من الطابوق ( الآجر ) أو الحديد ، للتغلب على مشاكل الثقل في توسعة البناء ، وكذلك مساعدة الخشب في تحقيق برودة الجو الداخلي للغرف عن طريق تقليل كمية الحرارة الواصلة الى البيت ، دون أن تمنع الضوء والهواء من الوصول الى غرف الشناشيل من خلال الفتحات الخارجية المشبكة . وكذلك تحفظ للسكان حرمتهم وخصوصيتهم ، فهي مصممة لحجب الرؤية من الخارج للجالسين في هذه الشرفات أو الغرف الملحقة بها .
ومن الظواهر المألوفة الأخرى في البيوت البغدادية التراثية ما يعرف بالأرسي ( الشبابيك الخشبية المزخرفة ) ، التي تفتح وتغلق برفعها الى الاعلى والاسفل . وتتخلل الأرسي أحياناً الأبجورات وهي شبابيك صغيرة شبيهة بالابواب تغطيها مقاطع من الخشب المائل المشبك لدخول الهواء وحجب الضوء.
وتمتاز العديد من البيوت البغدادية التراثية بوجود البنجرات ( وهي عبارة عن قضبان حديدية ذات أشكال زخرفية جميلة تصف عمودياً وتثبت من الاعلى الى خشبة مرتكزة في أعلى الشباك وأخرى تستند الى قاعدة الشباك ، وفي فصل الصيف كانت تصف مشربيات الماء الفخارية ( التنك ) على هذه البنجرات ، ليقوم الهواء الخارجي بتبريد الماء الموجود في داخلها .
|