سياسة الدولة العثمانية تجاه القبائل العراقية / الحلقة الاولى

احتل العثمانيون العراق في سنة 941 هـ_1543م، واستمر حكمهم للعراق حتى الاحتلال البريطاني عام 1917م، وكان الطابع العشائري آنذاك وحتى وقت قريب يغلب على المجتمع العراقي، حيث كانت بعض هذه القبائل مستقرة على شكل مجموعات كبيرة تمتهن الزراعة، وبعضها الآخر بدوية مترحلة لا تستقر في مكان معين، ولا تعرف حدودا لولاية أو ناحية، بحثا عن الماء والكلأ تارة، أو للإغارة على القوافل أو على بعضها البعض أحيانا أخرى، أو على مراكز السناجق ومعسكرات الجيش العثماني ثالثة.

وكانت الدولة العثمانية بطبيعة الحال تسعى جاهدة لبسط نفوذها على كل أرجاء العراق وإخضاع قبائله التي كانت تنتشر في طول البلاد وعرضها، إلا أن القبائل كانت مشكلة الباشوات التي لا حل لها، فهي بطبيعتها البدوية تتنقل من مكان الى آخر، ولا تصبر على الضيم بحكم تقاليدها، إضافة لكره هذه العشائر للتسلط الأجنبي؛ لذلك اتبع العثمانيون سياسات عديدة ومتنوعة وخصوصا مع قبائل الجنوب العراقي التي تختلف معها في المذهب لفرض الهيمنة التركية عليها، ومن جملة هذه الأساليب والسياسات:

أولا: فرض ضرائب مالية ثقيلة على العشائر

كانت العشائر العراقية تمتلك ثروة مالية ضخمة تتمثل بقطعان كبيرة من المواشي والجمال والخيول بالنسبة للقبائل البدوية، بينما كانت الأراضي الزراعية تنتج مقادير هائلة من الحبوب كالحنطة والشعير وغيرها من المنتجات الزراعية بسبب سعة الأراضي وخصوبتها ووفرة المياه وسهولة السقي في الجنوب العراقي، ففتحت هذه الثروات الطبيعية بعوائدها المالية الضخمة شهية الولاة العثمانيين، فأخذوا يسعون جاهدين لملئ جيوبهم منها من جهة، ودفع ما تبقى الى مركز الخلافة العثمانية في اسطنبول، حيث كان بقاء الوالي كحاكم على العراق مرتبطا بمقدار ما يدفع من أموال الى مركز الخلافة، وبتعبير مختصر: >البقاء لمن يدفع أكثر<.

ومن الطبيعي أن تأمين هذه الأموال الكثيرة لا يتحقق إلا بفرض ضرائب مجحفة على الأفراد والعشائر العراقية، وقد تنوعت هذه الضرائب في مسمياتها، ففرضت ضريبة على الإنتاج الزراعي، وكانت هذه الضريبة على الورق وفي القانون هي العشر، بينما كان الولاة العثمانيون يستوفون خمس الإنتاج، وتتعدى ذلك أحيانا الى تقاسم الدولة المزارعين إنتاجهم مناصفة، وربما أخذت ثلثي الإنتاج أحيانا.

ولم يكتف العثمانيون بهذا النهب المنظم للثروة العراقية، فكانوا يلجئون أحيانا أخرى لإحصاء الأشجار ووسائل الري وفلاحي المنطقة لتقدير تلك الضريبة، أو يتم التقدير على أساس المساومة على مبالغ مقطوعة. وكانت خطورة هذه الضرائب تكمن في كونها اعتباطية تخضع لمزاجات المخمنين، فقد كانت الدولة العثمانية ترسل شخصين أو ثلاثة لتخمين مقدار الحاصل الزراعي المنتج من هذه الأرض أو تلك وعرف ذلك (بالخرص)، ثم توضع المنطقة الزراعية في عهدة شيخ عشيرة يلتزم بدفع مبالغ مالية بمقدار المال المخمن مقابل تعيينه شيخا للعشيرة وعرف ذلك بمبدأ الالتزام، ومن الطبيعي أن ظلما فاحشا كان يقع على الفلاحين، فربما لا يفي الحاصل المنتج مع المقدار الحاصل المخمن مما يضطر الفلاح الى شراء محاصيل من مناطق أخرى للخروج عما بعهدته من الالتزام، وبالتالي يعمل طوال السنة في الأرض ليخرج بعدها مطلوبا للحكومة العثمانية الجائرة، وقد بلغ التزام منطقة الهندية جنوب كربلاء مثلا عام 1884م (17800 ليرة)، ولم يشبع هذا المبلغ الكبير نهم الولاة العثمانيين، فعهد التزام المنطقة في السنة التالية الى شيخ زبيد على مبلغ قدره (105000 ليرة). (قبيلة شمر العربية ومكانتها وتاريخها السياسي: جون فريدريك وليمسون، ترجمة: مير بصري: ص124 )