لست من هذا النوع رجاءً !... محمد غازي الاخرس

لديَّ اليوم رغبة في استذكار ظاهرة قديمة لكنها متجددة تتعلق بالإنسان عموما والنساء بشكل خاص، فأثناء حديث مع أحد الأصدقاء تذكرنا معا تلك الظاهرة التي حيرتنا في شبابنا وكانت باختصار مصداقا لمثل شهير قد لا تسمح الجريدة بإيراد نصّه لكن ترجمته تفيد أن بعضهن قد يرغبن في دواخلهم في التمتع بالحياة ومباهجها لكن الحياء يمنعهنّ.
أما الظاهرة نفسها فقد كانت تبدو طريفة جدا أمام من جرّبها وصادفها؛ ها أنت ذا تبصبص على صبية تكنس باب دارهم أو ترشّه بالماء فتبادلك النظرة بأخرى حرّاقة، تبتسم لها فترد الابتسامة بأبلغ منها. تفرحُ في دواخلك وتقول ـ هذا هو ..صارت القسمة! في اليوم التالي تعيد الكرّة لتتأكد فإذا الصبية هي ذاتها، متفاعلة جذلة بنداء الغرام. حينئذ تتشجع وتبطئ من خطاك ثم "تشمر" لها رقم التلفون وتمضي. تلتفت لها فتراها وهي تلتقطه بسرعة. في المساء، يرن التلفون في بيتكم، تقول ـ ألو..ألو .. لا يرد أحد. تكررـ ألو ..ألو ..أحجي يمعوده تره راح أسده. فتقول هي بغنج بعد أن ترفع كفها من "يدة  الهاتف ـ مرحبا..بيت أبو جنان؟  ترد أنت ـ أي عيني بيت أبو جنان..آني جنان تفضلي. فتكركر الصبية وتقول ـ أنت ولد مو جنان! 
تلك كانت طريقة معتادة في التواصل الروحي بين الشبان. نظرةً فتحية فسلام، فرقم تلفون فاتصال آخر الليل يمتد لساعة أو ساعتين. تتعرف على اسم الصبية وهواياتها، تحدثك عن المطرب الذي تفضله، تقول مثلا أنها تركت الدراسة وقعدت في البيت تكنس وتمسح مع أمها وأخواتها، وأنها لا تخرج إلّا نادرا برفقة شقيقها الصغير مسربة لك خبرا مزعجا مفاده أن لا تتوقع في يوم أن تواعدها فهي "مو من هذا النوع". جلّ ما تفعله هو الحديث في التلفون أو الابتسام لك من خلف الباب. عدا ذلك، هي لا تستطيع شيئا بالمرة ولم تفعله في حياتها.
نعم، لطالما صادفنا أمثال هذه الصبية وابتسمنا حينها. لم يخطر في أذهاننا تأمل العلل الاجماعية والثقافية التي تقف وراء الظاهرة، ولم نتساءل عن المنطق القيمي الذي تستند اليه. أعني الحياء الذي يغلب الرغبة، رغبة المرأة في ممارسة حياتها كما تشعر بها. وإنني لأتساءل الآن: أهو حياءٌ بالفعل أم تراه كرباج اجتماعي معلق أمام الجسد ومستعد لمعاقبته في أي لحظةِ "استهتار" تراوده؟ لدينا، في الواقع، عشرات الظواهر المماثلة التي تتجاوز مجرد خروج صبية مع شاب في موعد غرامي لتصل إلى نسوة مطلقات وأرامل تفرض عليهن الأعراف وأد رغباتهن بالحياة طالما تعارضت مع قيمنا الاجتماعية. والأمر، من ثم، يتجاوز المرأة ليصل إلى الإنسان عموما، سواء كان ذكرا أم أنثى. ذلك أن منظومة القيم تشمل الجميع وتُفرض بطريقة رمزية يصعب معها مجرد التفكير في انتهاكها، وإلا فإننا جميعا نرغبُ أحيانا في فعل أشياء ممتعة لكننا نستحي محاولين الظهور بمظهر الزاهدين. كم واحدة من أمهاتنا المسكينات تمنت مثلا أن تتنزه على بلاج ما كباقي خلق الله لكن الحياء منعها من التعبير عن رغبتها؟ كم من "شايب" طيب من ذوي الغتر والعكل راودته رغبة ارتداء قاط أنيق والخروج به لأماكن لم يزرها؟ متع هؤلاء قد تبدو بسيطة لكنها في الوقت عينه صعبة التحقيق بسبب قسر القيم ومفهوم العيب و"المخازي" الاجتماعية. ذات مرة صادفت صورة فوتوغرافية فيها مفارقة سوداء؛ كانت ثمة امرأة محجبة في الستينيات من عمرها تقريبا، سمينة نوعا ما، تحلّق في أرجوحة بحديقة عامة، وغير بعيد عنها امرأة بهيئة متحررة تمارس المتعة نفسها. الفرق الشكلي بين الأنموذجين كان هو المفارقة، فقد بدت المحجبة متحفظة شاعرة بارتكابها فعلا منافيا للمنطق بينما كانت المرأة الأخرى منسجمة مع متعتها العابرة.
نعم، الظاهرة ثقافية تحتاج كثيرا من التأملات وليست مجرد صبية تبتسم لشاب، ثم حين يطلب منها موعدا، تجيب بحدة ـ شنو هالكلام.. قابل آني من هذا النوع! لست كذلك يا عزيزتي..نعتذر عن الخطأ غير المقصود.