علي بن ابي طالب.. وقصيدة الفيتوري... جواد الحطاب

يمتلك الحديث عن علي بن ابي طالب الكثير من الاغراء ؛ ولذلك لم تنقطع الكتابات عنه على مرّ العصور والازمان؛ ولن تنقطع؛ فهذا الرجل الذي تعرف على الاسلام من مصدر الاسلام (بيت رسول الله) ونمت شجاعته في ظلال اشجع الشجعان (محمد العظيم) الذي واجه قريش وعتاة فرسانها بثوبه البسيط وجسده الذي حمل ثقل الرسالة قبل ان يحمل ثقل الطغيان والأنفة الزائفة ؛ من دون سيف او رمح او كنانة سهام .

كان – علي- شخصا متفردا في كل شيء ؛ وكاملا في كل شيء ( والكمال لله وحده) لكنني اتحدث هنا عن المعايير البشرية : حكمة وشجاعة وكرما وزهدا وتواضعا وثقة بالله وايمانا بالفقراء وانحيازا لهم ؛ حتى لبس التراب ثوبا ؛ فكنّاه هادي البشرية : ابا تراب ؛ وكانت من احب الالقاب والكنى الى نفس ابي الحسنين .

ولهذا ؛ يسعى الكتّاب والشعراء والمفهرسون والمؤرخون وتبّاع الأثر الى ان يلحقوا بركاب ابن ابي طالب ؛ يتشبثون باسمه التاريخي وباسمه العائلي وباسمه الانساني ؛ لا ليزيدوه مجدا ولكن ليصنعوا امجادهم هم ؛ وفعلا ثمة اسماء واعلام مهمة في ثقافتنا العربية والثقافة العالمية اكتسبت شهرتها من كتاباتها عن حيدر الكرار .

ألم أقل لكم ان الحديث عن ابن ابي طالب يمتلك الكثير من الاغراء ؛ فبدلا من ان اذهب الى تقديم قصيدة الشاعر العربي الكبير محمد الفيتوري عن الامام علي ؛ ها انا انقاد الى عذوبة امير المؤمنين وتلوذ احرفي بمقامه الشريف ؛ فانسى التقديم واحاول ( وآنّى لي ذلك ) ان احتفي بالمكتوب عنه وانسى تماما الكاتب .

-2-
مع بداية الالفية الثانية ؛ زار بغداد الشاعر العربي – السوداني- محمد مفتاح الفيتوري ؛ كنت ايامها (الامين العام للادباء والكتاب) ولذلك كان من البديهي ان التقيه بشكل يومي طوال ايام زيارته؛ وان كان موضع ترحاب اكيد من بقية الزملاء اعضاء المكتب التنفيذي ؛ سالناه عن سرّ غيبته الطويلة عن بغداد التي نعرف كم هو مولع بها ؛ لم يجب الشاعر الفيتوري مباشرة ؛ وانما طلب ان نهيّئ له سيارة تذهب به الى النجف الاشرف؛ ليزور..ونقيم له امسية هناك ؛ وعندها سنعرف السبب !!

في اليوم التالي كانت سيارة " الوفود " تقطع بنا الطريق من بغداد الى النجف ؛ وبعد اتمام زيارة ضريح ابي تراب ؛ وتناول الغداء في المحافظة المقدسة ؛ ذهبنا مساء الى حيث الامسية التي اتفقنا على اقامتها للفيتوري في قاعة المحافظة .

لم يتحدث الفيتوري طوال الطريق بين بغداد والنجف عن قصيدة في جيبه مكتوبة عن الامام ع ؛ وانما ارادها مفاجأة لنا ؛ وفعلا كانت مفاجأة وقد استقبلها الشارع الثقافي النجفي بالكثير من الترحاب .

في طريق العودة ؛ تحدّث الفيتوري عن سرّ غيبته الطويلة عن بغداد؛ وسرّ كتابته لهذه القصيدة فقال :
في آخر زيارة لي ذهبت الى النجف ؛ حتى اذا اتممت الطواف بالقبر الشريف ؛ جلست بين الزائرين اقرأ الفاتحة ؛ وكان الضريح يومها يعج بالعديد من الجنسيات التي ضعت بينها ؛ واذا برجل معمم بعمامة خضراء يقف امامي ويسألني : ألست الشاعر الفيتوري ؟
يقول الفيتوري ارتبكت من سؤاله وكيف ميّزني من بين الجموع ؛ فاجبت : مرتبكا نعم..نعم ؛ فقال : علي بن ابي طالب "يطلبك"..وانت مدين له بقصيدة !
يضيف الفيتوري؛ ذهلت لحظتها وحين تمالكت دهشتي لم أجد الرجل امامي وكأنه فصّ ملح وذاب ؛ فقررت لحظتها ان لا اجيء الى بغداد الا ومعي قصيدة عن الامام علي ؛ وهي التي سمعتها مني اليوم !!

-3-
القصيدة ؛ اسمها : مقدمة الزيارة 
واقدمها محتسبا ثواب قراءتها لروح والدي السيد كاظم الخرسان الحسني
.........

وقفت.. والشمس ملقاة على كتفي
وبيرق الشعر في عينيّ غير خفي
وعاصف يكنس التاريخ فهو دمىً
مستوحشات.. وغيلان من الخزف
وساحرات..يغربلن الفراغ وقد
تناسخ الموت في الاشباح والنطف
وكان موج الرجال الراقصين على
حرائق العصر ممتدا على الجرف
وكنت اركض في حلمي اليك وبي 
اليك ما بيَ من شوق ومن ..شغف
لعلّ بعض ارتحالي فيك بعض دمي
في طينة الاخضرين: الماء والسعف
يسقي العظام التي جفّت منابعها 
الاولى؛ وينفخ روح الله في الجيف

* * *

وقفت يا سيدي.. يا قوس دائرة
من النبوات ؛ منذ البدء لم تقف
أصغي وأوغل في الاشياء منسكبا
وسائلا في عناق الصخر والصدف
وقد أراك..وادري ان قدرك في 
معارج السرّ.. سرّ بالجلال حفي
وقد تباغتني رؤياك معتكفا 
على بقايا سراج فيّ معتكف
فأستبيح لنفسي ان أقول لها 
في خافت من جريح الصوت مرتجف
فيم اضطرابك او شكواك مطرقة
همّا.. وخائفة ؛ يا نفس : لا تخف
هذا عراق امير المؤمنين وهذي
الارض.. ارض عليّ ساكن النجف
* * *

هذا العراق وكم من غاصب عبرت 
احلامه ؛ ثمّ لم يحصد سوى التلف
هذا عراق العراقيين .. عزتهم 
في النفس لا في حقول النفط والترف
هذا عراق الألى خطت أناملهم 
شريعة الله ؛ في الاحجار والصحف
تكالبت حولهم دنيا مسيّجة
بالنار.. والدم .. والصلبان.. والصلف 
واستهدفوا رأس بغداد فما انخفضت
راس ؛ وزادت شموخا وقفة الشرف
وقلت؛ والغيم عبر الغيم ينسجني
برقا.. وينفضني في دمعي الذرف
كم غائبٍ حاضر تحت القباب هنا 
وكاشف بثّ شكواه .. ومنكشف
وساجدٍ راعش الكفين.. مجمرة 
في مقلتيه ؛ والوان من السدف
وغارقٍ في مقام الوجد تحسبه 
طيفا ؛ لطيفِ زمان جدّ مختلف
وقلت يا نفس ما اغلى البلاد وان 
ضاق الحصار على ابنائها الأنف
وما ارقّ معانيها .. وان خشنت
فيها الحياة؛ وسالت دمعة الشظف
فأمشي الى قدر لا تعرفين له 
الا الوفاء ..ومجنون العراق وفي
واقري السلام 
اذا جدّ السلام 
على دار السلام 
وبوسي الارض .. وانصرفي..