آب والموت الإرادي

هذا الشهر هو الأكثر إزعاجا في حياتي، أنا متأكد من ذلك رغم أنه مرت عليّ شهور قاسية بحرّها وقرها. العام 1995على ما أذكر قضيت أسبوعا في سجن عسكري كان عبارة عن علبة سردين. كنا أكثر من خمسين "مذنبا" نزدحم في حجرة صغيرة، وكان آب لهابا كالعادة لدرجة أننا كنا نتناوب الوقوف قرب فتحة الباب. إحدى الليالي تمنيت حقا أن أكون روحانيا فأميت نفسي مؤقتا وأحلق بروحي خارج السجن ثم أعود لاحقا قبل تعفن جسدي. كنت حينها مهتما بعوالم السحر والماورائيات وقد راقني فعلا ما قرأته عن الهنود الذين يجيدون التحكم بأجسادهم وأرواحهم فيوقفون دقات قلوبهم لساعات ثم يعودون للحياة حسب إرادتهم. أحد الكتاب يروي ذلك فيقول أن أحد الهنود أدخله يوما لمكان ما وأراه شخصا راقدا ثم قال له انه أستاذه وقد قرر الموت لأربع وعشرين ساعة. وقبل أن يدخل في غيبوبته جمع مريديه وقال لهم: تعالوا لي في الساعة الفلانية وراقبوا دقات قلبي التي ستعود لدأبها. لكم تمنيت، في ذلك المحبس، لو أنني أستطيع فعل الشيء ذاته للخلاص من الحر والزحام على فتحة الباب. بل لن أنسى أنني كدت أجن في بعض الساعات بسبب ضيق التنفس و"طلعان الروح" غير الإرادي.
الحال أن تلك التجربة لا تعد شيئا ذا بال أمام ما مررنا به في النصف الثاني من هذا الشهر. ليس بسبب الشمس و"عفرتتها" علينا فقط، بل بسبب العدو الذي لا يقل خبثا وقسوة عنها، أعني الكهرباء اللعينة التي عذبتنا وداست على كرامتنا وجعلتنا نتوسل بها كل يوم ـ يمعوده جري عدل لا تموتينه... نتوسل بها فلا تسمع، نتسول منها التيار ولا تقبل، إنما تمعن في تلاعبها بأعصابنا؛ تشتغل لربع ساعة ثم نسمع صوت انفجار بعيد تنطفي معه.
ـ انفجرت المحولة مال المنطقة! يقول أحدنا خائبا فيرد عليه الآخرـ هاي طلابت الما تخلص! فمعنى ذلك بقاؤنا تحت رحمة صاحب مولدة المنطقة ليومين أو ثلاثة، هذا إذا استجابوا لمن يراجعهم من الجيران وأصلحوها. قبل أيام، ظلّ الكيبل الرئيس ممدودا في الشارع فرجة لمن يتفرج، بدا لي شبيها بذلك الرجل الهندي الميت بإرادته. لكن الفرق أن أستاذهم أعطى لتلامذته موعدا للقيامة بينما كيبلنا انطرح ساكتا هامدا فـ"لا حس ولا خبر". لكن مشكلات الكهرباء لا تقف عند هذا طبعا، فعطل محولة منطقتنا لا يعني عطل شقيقتها في الدرابين المجاورة، وهذا معناه أن يمتنع صاحب المولدة عن تشغيل مولدته متذرعا بوجود الوطنية. أقول له ـ احنه شنو ذنبنه؟ فيرد ـ وآني شنو ذنبي؟ 
ولكي لا يظنّ أحد أن شكواي شخصية أو "دربونية"، أقول أن المشكلة هذه عامة تقريبا، وهي نتيجة طبيعية للزيادة في الأحمال على الطاقة، ما يؤدي إلى عطب المحولات بين يوم وآخر. يحدث هذا كل صيف ولو أننا أحصينا الأموال التي صرفناها على تصليح المحولات لخرجنا برقم نستطيع به شراء محطات كبرى.
هل نحتاج إذن لوزارة تخطيط كهربائي؟ ربما، فما ألاحظه هو أن الارتجال سائد في هذا القطاع حدّ أنهم جربوا قبل سنوات خطة "جهنمية" لتقنين الأمبيرات وصرفوا مئات ملايين الدولارات عليها. ثم، ببساطة شديدة، اكتشفوا أن المستهلك لن يعدم الوسيلة لأخذ حصته ولو كره المقننون. يومها شاع منظر وضع السلالم على أعمدة الكهرباء لإلغاء "المحولة" التي وضعوها لنا والتي لا تسمح سوى بتزويدنا بعشرة أمبيرات لكل عائلة!
بدلا عن هذه الخطط الجهنمية، كان يمكنهم تدريبنا على الموت الإرادي في ساعات الذروة والتحكم بضربات القلوب، فلا محوّلات تنفجر ولا أصحاب مولدات يحرجون منا..وسلامتكم من الموت الإرادي وغير الإرادي يا ضحايا آب.