كيف اصبح اقليم كردستان محط أنظار العالم ؟
بين ليلة وضحاها أصبح أقليم كردستان محط أهتمام العالم وشاغل أنظاره ، وقد يبدو الأمر للوهلة الأولى  استثنائيا ،  ونادر الحدوث ، حيث لم يحدث قط  منذ الحرب العالمية الثانية اجماع اقليمي ودولي حول قضية او بلد ما مثل ما يحدث هذه الأيام من تأييد المجتمع الدولي بأسره لأقليم كردستان في تصديه لأرهابي تنظيم ( داعش ) أقوى وأغنى و أخطر تنظيم ارهابي في العالم  . ولكن لهذا الأهتمام أسباب موضوعية تتعلق بأمن واستقرار الشرق الأوسط  ومصالح الدول الغربية والقيم التي يؤمن بها المجتمعات المتحضرة .
 
لا يخفي على المتتبع لتطور اقليم كردستان في كافة مجالات الحياة الأنسانية وتحديث المجتمع الكردستاني  في السنوات الأخيرة ، ملاحظة قيم التسامح العرقي والديني والمذهبي المتجذرة في الثقافة الكردية ، وهذا ما أشار اليه الرئيس أوباما في كلمته التأريخية عندما أجاز تقديم المساعدة العسكرية العاجلة لقوات البيشمركة لصد قطعان ( داعش ) وردعهم عن المساس بأمن وحرية كردستان .
 
 صحيح ان التراجيديا الأنسانية الكبرى التي تعرض لها الأيزيدييون الكرد في مدينة سنجار والحصار الذي فرضه ارهابي داعش على النازحين الى المنطقة الجبلية القريبة منها، كان احد العوامل الأساسية التي دفعت البيت الأبيض الى اتخاذ قرار عاجل بتوجيه ضربات جوية فعالة الى مواقع الأرهابيين  بعد أقل من 36 ساعة من هجوم مسلحي( داعش ) على حدود الأقليم ودون انتظار قرار من مجلس الأمن الدولي كما  كان الأمر في بعض المناطق الساخنة الأخرى في العالم التي تدخلت فيها الولايات المتحدة الأميركية عسكريا ( البوسنة ، ليبيا ) ثم اتخذ الرئيس اوباما قرارات لاحقة   بمد البيشمركة بالأسلحة الحديثة وزيادة عدد المستشارين الأميركيين في أربيل  والقاء المياه والطعام الجاهز الى العالقين في جبل سنجار . وحذت دول الأتحاد الأوروبي حذو الولايات المتحدة الأميركية في تقديم الدعم العسكري المباشر لقوات البيشمركة  والمساعدة الأنسانية العاجلة لمنكوبي  سنجار وابدت دول كثيرة تأييدها ومساندتها للأقليم في تصديها لعدوان دولة داعش الأرهابية  نيابة عن العالم بأسره .
 
ولكن ثمة عوامل أخرى فرضت نفسها على البيت الأبيض في اتخاذ القرار التأريخي بمساندة الكرد ، ويمكن تلخيصها فيما يلي :
 
1 – دفعت الولايات المتحدة الأميركية ثمنا غاليا للأخطاء التي ارتكبتها ادارة الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش حيث بلغت خسائرها البشرية حوالي ( 5000 ) ضابط وجندي واصيب أكثر من ( 35000 ) آخرين بأعاقات دائمة وأنفقت مئات المليارات من الدولارات على المجهود الحربي ، لتترك العراق بعد انسحاب قواتها منه في نهاية عام 2011 في وضع لا يحسد عليه . أي ان كل الجهود الأميركية ذهبت هباءاً ، ما عدا استثناء واحد هو أقليم كردستان المستقر أمنيا والمزدهر أقتصاديا.
التجربة الديمقراطية والتنمية المتسارعة في الأقليم  نموذج ناجح حيث أثبت الكرد انهم أقرب شعوب الشرق الأوسط  الى القيم الديمقراطية والأخلاقية والثقافية للحضارة الغربية واكثر استعدادا وكفاءة لتحديث مجتمعهم من أي مكون آخر من مكونات العراق .
 
لقد أصبح اقليم كردستان واحة للأمن والأمان المادي والديني والسياسي في العراق المضطرب وفي الشرق الأوسط عموماً  وسوقا واعدة ذات بيئة استثمارية جاذبة  للشركات العالمية   وملاذا لكل العراقيين النازحين والمضطهدين .
 هل يوجد في الدنيا بأسرها كيان آخر بحجم اقليم كردستان وبعدد نفوسه يحتضن  أكثر من مليون وربع المليون لاجيء من مناطق العراق الأخرى المتوترة ومن شتى الأعراق والأديان والمذاهب ، اضافة الى حوالي ربع مليون لاجيء  سوري معظمهم من الكرد .
الكثير من اللاجئين ينتشرون في العديد من  بلدات الأقليم كضيوف أعزاء يحميهم القانون وتقاليد الضيافة الكردية التي أشاد بها المستشرقون كثيراً في الماضي وكل من زار الأقليم في السنوات الأخيرة من العرب والأجانب .
 
2–  يتمتع أقليم كردستان الغني بالموارد الطبيعية -  كالنفط والغاز اضافة الى المعادن الثمينة التي لم تستثمر بعد -  بقيمة جيوستراتيجية كبيرة وهامة على المستوى الأقليمي والدولي  لوقوعه في قلب الشرق الأوسط ، وهو اليوم ، كما كان الأمر في الماضي ممر بالغ الأهمية  للتجارة بين بلدان المنطقة . ان  وصول داعش الى داخل اقليم كردستان كان سيؤدي الى عدم الأستقرار في العراق ومنطقة الشرق الأوسط ويشكل خطرا على تركيا -  العضو في حلف الأطلسي  - وايران وعلى الشرق الأوسط عموما .
 
3– لعبت وسائل الأعلام الأميركية والرأي العام الأميركي دورا ضاغطا على البيت الأبيض  وفي لفت الأنظار الى مأساة الأيزيديين والأهمية القصوى لأقليم كردستان كحجر أساس لأستقرار الشرق الأوسط ، وطالب العشرات من اعضاء الكونغرس ومجلس الشيوخ الأميركي  بنجدة الكرد ومد قوات البشمركة بالأسلحة الثقيلة الحديثة اللازمة لدحر داعش وتطهير كردستان والعراق  من رجس هذه التنظيم المتوحش ، المجرد من كل القيم الأخلاقية والدينية والأنسانية .
ويقول الصحفي الأميركي البارز فريد زكريا في آخر مقال له ان الشعب الكردي  قوة ديمقراطية في الشرق الأوسط  و صديق موثوق للولايات المتحدة الأميركية .
 
وخلال كتابة هذا المقال أتصل بي صديق مسيحي عزيز ،  هاجر الى الولايات المتحدة قبل حوالي ( 40 ) عاما ، وهو اليوم  يحمل الجنسية الأميركية  ورجل اعمال ناجح وعضو بارز في الحزب الجمهوري الأميركي  . نقل لي هذا الصديق آراء ومشاعر المواطن الأميركي العادي ازاء اقليم كردستان . قال انه استطلع آراء عدد كبير من أعضاء الحزب الجمهوري الذين أبدوا اعجابهم بالتقدم المتسارع في الأقليم الذي تحول خلال سنوات قليلة الى بلد يسعي للحاق بالحضارة العالمية واصبح واحة للأمن والأستقرار والأزدهار . وان الولايات المتحدة لن تسمح أبداً لأحد كائنا من يكون ، المساس بهذا النموذج الناجح . كما أشاد الأميركيون بشجاعة البيشمركة وصمودهم البطولى امام الهجمة البربرية لقطعان داعش .
 
 4 – انتهجت القيادة الكردية سياسة متوازنة مدروسة ومرنة في التعامل مع الجارتين الكبيرتين تركيا وايران ، حيث استطاعت تأسيس علاقات حسن الجوار والأحترام المتبادل والحرص على المصالح المشتركة معهما  في آن واحد ، مع الحفاظ على استقلالية القرار الكردي  . وهو انجاز بارز لسياسة الأقليم الخارجية ، اذا علمنا ان تركيا وايران كانتا  على مدى مئات السنين وما زالتا  تتنافسان لبسط نفوذهما على كردستان والعراق .
كما نجحت القيادة الكردية في التعريف بالقضية الكردية وكسب كثير من الأصدقاء للشعب الكردي والمناصرين للقضية الكردية  في اوساط النخب السياسية المؤثرة في الغرب واجتذاب الأهتمام الدولي المتزايد بأقليم كردستان الناهض ولا أدل على ذلك من وجود أكثر من ( 30) ممثلية دبلوماسية في العاصمة أربيل . ولدى الأقليم اليوم علاقات متعددة الجوانب مع عدد كبير من دول العالم .
كل هذه العوامل مجتمعة جعلت التجربة الديمقراطية في أقليم كردستان والأستقرار الذي ينعم به نموذجا يحتذى في وسط منطقة مضطربة وبالغة الأهمية بالنسبة الى المجتمع الدولي  ، وجعلت الدول الديمقراطية العريقة تسارع الى نجدة الشعب الكردي وقواته المسلحة في صراعه الدامي مع دولة الأرهاب الداعشية ، هذا الصراع الذي يتوقف على نتيجته مصير الشرق الأوسط بأسره .