المثل القائل بأن (التاريخ يعيد نفسه) لا يمكن قبوله على علاته من دون مقاربة فكرية ومحاولة نظرية سعياً للبحث عن قوانين كلية تحكم التاريخ على حذو القوانين الحاكمة للطبيعة. ومع أن مثل هذه المقاربة لا يراد منها أن تصل إلى ذات النتائج التي يمكن الوصول إليها من خلال نظيراتها في علوم الطبعية، إذ أن التطلع إلى شيء كهذا يجعلنا نسم التاريخ بوسم الطبيعة وننسب إلى تسلسل الوقائع والاحداث نوعاً غامضاً من (الحتمية)، وهو أمر لا يوافقنا عليه أغلب الاختصاصيين في الحقلين المعرفيين (التاريخ والطبيعة) إلا أنه ومن باب الرغبة في التأمل والشغف بالكتابة وربما طلباُ لتأسيس الثقافة على مقولات التفكير الحر الذي يطبع عصر العولمة أو عصر ما بعد الحداثة، نجد أنفسنا متورطين اختياراً في المشاركة والمحاولة، بل إن عصرنا الراهن يحيل إلى المبادرة في اية اطروحة وإن أُدرجت في خانة (اللامعقول) بحسب الفهم السائد لعصري الحداثة والتراث، وإلا فالمعقول والامعقول أمران نسبيان بحسب الفهم المعاصر. لا أريد التوغل أكثر في التمهيد لمقاربتي التي نوهت إليها، بل أراني (طلباُ للاختصار وحتى لا يتطرق إلى قارئي العزيز الملل) مضطراُ للدخول في صلب الموضوع من باب عنوانه، فأقول: التاريخ في أبسط تعريف له هو سجل للأحداث، والأحداث ليست كليات بل جزئيات، والمفروض بحسب المنطق أن يندرج الجزئي تحت الكلي، ومن هنا يمكن لنا أن نتفهم وجهة نظر جماعة من المؤرخين (المشغوفين بالنظام) حينما ادعوا وجود (حتمية في التاريخ) على غرار الحتمية في الطبيعة. فطالما كانت الاحداث مندرجة تحت قوانينها وكلياتها، فلابد لنا أن نقبل بفرضية التكرار التاريخي، وأن ننزل إلى مستوى الفهم الدارج الذي يطلق حكماً مسبقاً في مثل مشهور (التاريخ يعيد نفسه). حينما يكون الامر بهذه الشاكلة فمن الواضح أن المؤرخ المعتقد بالحتمية التاريخية أو الشخص العامي المسلم بالمثل المشهور لا يريدان ما يتبادر إلى الذهن من (التكرار التطابقي للاحداث)، بحيث يكون الحدث التالي نسخة طبق الاصل عن الحدث السابق، بل يريدان المشابهة والمماثلة. وربما لا نكون على مبعدة من الصواب إذا حاولنا تفسير الحديث النبوي التالي تفسيراً حتمياً أو تكرارياً وهو قوله: (لتركبن سنن الذين من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لو ان رجلاً منهم دخل جحر ضب لدخلتموه)، فالحديث على فرض صحته يؤكد فرضية (التاريخ يعيد نفسه) ويؤسس لمبدأ الحتمية التاريخية. ومن هنا يسوغ لنا الحديث عن مشابهة بين الطبيعة والتاريخ فيما يتعلق بالناموس الحاكم الذي يهيمن على ترتب النتائج على الأسباب، أو نشوء التوالي من المقدمات، بحيث يمكن (للبعض) التنبوء بحدث اللحظة التالية بملاحظة حدث اللحظة السابقة. فلا يكون عجيباً ولا غريباً أن يخبرنا أشخاص بحدوث احداث لم تحدث بعد، سواء أكان المخبر بها شخصاً موهوبا أو رجلاُ قديساً. فحينما نقرأ لمتنبيء مثل نوستراداموس مئات التنبؤات لحوادث لم تحصل في عصره، ثم يثبت التاريخ وقوعها إجمالاً أو تفصيلاً، وحينما نعثر في مواريث بعض الأنبياء واوصيائهم على قراطيس تتحدث عما سيكون في المستقبل أو في آخر الزمان، ثم يأتي المصداق لها بعد حين من الدهر، فذلك الأمر لا يدعو للدهشة، وليس من الصواب أن يرفع أحدنا عقيرته متشدقاً بالعلم والمعرفة فينسب هذه الأخبار إلى الأساطير أو الخرافات...
|