هممت أن أعتذر ، لكن صاحبي لم يمهلني . في نهار يوم جمعة عبرنا دجلة من شاطئ ساحة الشهداء بقارب لم تعد تلوي به الرياح . نريد أن نلحق المتنبّي في شارعه . هنا تستطيع أن ترى شجرة الثقافة العراقيّة باسقة ، تثبت جذورها ، وترتفع فروعها ، وتمتدّ أغصانها في كلّ وجه من الوجوه التي تألفها وتألفك ، وتستمتع بساعات لذيذة بين الكتب والناس . تتذكّر الأزمنة الخوالي . تتوقد مخيّلتك . يخطر في بالك أن تستعيد وجوهاً طواها الرّدى ، فما بين صمت الكتبي والأديب الشقي الشيخ عبد العزيز القديفي وهو يحدّثك عن معشر الجنّ الذين سرقوا كتبه ، فتبتسم للرواية من أعماق قلبك ، وصمت الشيخ علي الخاقاني الذي تحدّثك عنه ( البابليّات ) و ( شعراء الغري ) . تفتقد صوتاً مجلجلاً كان ينادي عليك . تتلفّت إلى صاحبه فإذا به صوت نعيم الشطري ( الشيوعي بعد الشيوعية ) . تكون جزءاً من ضجيج الأدباء والمثقفين في مقهى الشابندر ، وما عليك إلا أن تملأ عينيك ، وأذنيك ، وشعورك ، وعقلك ، بما يحيط بك من الأشياء . تسأل عن وجوه أدمنها شارع المتنبي وأدمنته : عبد الرحمن أبو عوف وهو يدفع مكتبة بكاملها في عربته بساقيه المبتورتين ، وعن العمّ قاسم أبو الجرايد وهو يتنقل بين مقاهي الزهاوي ، وحسن عجمي ، والشابندر ، والبرلمان . يوزّع الصحف ويؤجّرها على القرّاء . تقتفي آثار مكتبة الفلفلي . أشهد أن كتبي الأولى اقتنيتها ، أو استعرتها من رفوف هذه المكتبة . تسأل عن الورّاق كمال أبو مصطفى الذي كان يجلّد لك الكتب القديمة ، فتأتيك الإجابات مرتبكة ، أو لا تأتيك . ينتابك شعور بالبهجة . تضيق الأزقة وتتسع . يشتدّ من حولك الزحام . تتأمّل القشلة فلا تسمع دقّات ساعتها . لقد توقف الزمان في السراي ، وتوقف القُشل عن القراءة والكتابة . تنعطف بك الطريق نحو المدرسة المستنصرية . يستوقفك القصر العباسي . تمرّ بجامع الوزير ( المصلوب ) . في هذا الجامع قال الشاعر العباسي أبو الحسن التهامي في صديقه الوزير المصلوب ابن بُقية أعظم ما قيل من قصائد الرثاء ، وزّعها منشوراً سريّاً وهرب : ( علوّ في الحياة وفي الممات .. لعمرك تلك إحدى المكرمات ) . تلتفت أمامك . تودّ لو تزور المتحف البغدادي . تقف في طريق عودتك عند رأس جسر الشهداء . هنا ماتت معاهدة بورتسموث ، وكذلك تموت المعاهدات الجائرة جميعاً . هنا قال الجواهري الخالد قصيدته الخالدة في أخيه جعفر عندما استشهد على هذا الجسر : ( أتعلم أم أنت لا تعلم ... بأنّ جراح الضحايا فمُ ) . تتلفّت وراءك . تمدّ بصرك نحو تمثال الرصافي الشاعر الشامخ الذي نزلت به دنياه من عضو في مجلس المبعوثان إلى بائع سجائر على الأرصفة . ترسل نفسك على سجيّتها . تتمتم مع نفسك ببيت من قصيدته الرائعة في مناجاة بغداد : ( أنا ابن دجلة معروف بها أدبي .. وإن يكُ الماء منها ليس يرويني ) فتلامس قلبك بعاطفة وهوى . يسألك صاحبك : هل استمتعت بالرحلة ؟ فلا تملك من جواب إلا ما تحفظ من قصيدة نزار قباني في رثاء طه حسين : ( لا تسلْ عن روائع المتنبّي .. والشريف الرضي أو حسّان ِ ) . ما أقسى أن تكون مثقفاً عراقياً في هذا الزمن الغدار ، ف ( واحرّ قلباه ) يا أبا الطيّب !. إننا نعتذر اليوم من المتنبي شاعراً ، وشارعاً ، وشعراً .
|