بذرة التفلسف

ما هي الفلسفة؟ هذا سؤال محيّر وقلق لدى المهتمين بالفلسفة قبل غيرهم، إلا أن البعض قد يتمادى في الحيرة حتى ينسى أن ما هو مهم في الفلسفة هو "التفلسف" ذاته؛ أي الشغف بالتفكير والتحليل والحكم. فإذا كنت في طبيعتك تميل للشك والاعتراض على الأمور قبل تصديقها، وتجد متعة في تحليل الآراء والأفكار والمفاهيم والأخبار وكل ما تراه أو تتصل به أو تلامسه أو تتعرف عليه، فاعلم أن هناك فيلسوفا قابعا في أعماقك. ولكن! كما أن كل بذرة بحاجة إلى ظروف مساعدة لكي تنمو، كذلك هي "بذرة التفلسف"، تتطلب منك إيجاد وخلق ظروف مساعدة لكي تكبر وتتطور حتى تتحول إلى "فيلسوف". ولكي تكون كذالك يجب عليك أولا، وقبل كل شيء، أن تفكر كفيلسوف. وليس هناك ما يعلمك هذا النمط من التفكير إلا القراءة للفلاسفة أنفسهم. عليك التوغل في عقول هذه الفئة من خلال كتبهم ومصنفاتهم والاستماع إلى كلامهم. عليك أن تتعرف على سُبلهم في السؤال، وأساليبهم في المقارنة، وطرقهم في الاستدلال، وانظارهم في الحجج الصائبة والزائفة. ولن تكون فيلسوفا حقا إلا حين تبدأ بشق طريقك لوحدك بعيدا عنهم، فتكون لديك أسئلتك الخاصة ومقارناتك الخاصة واستدلالاتك الخاصة وحججك الخاصة ... وبعبارة موجزة: هويتك الفلسفية الخاصة التي تميزك عمن سواك. 
طيب! والآن السؤال لك: كيف حال البذرة خاصتك؟
كن حذرا من الاهمال! جنّبها التسرّع والارتجال والاستفزاز والتهور والتسوييف والتبجح، تعاهدها بالهمة والصبر والأسئلة الجريئة .. إفعل ذلك وهي ستكون بخير دائما.
في الآونة الأخيرة تيسر لي مطالعة مجموعة من الكتب النافعة في هذا الصدد، حاول أن تجرب حظك معها، فلعلها تعجبك أنت أيضا. منها الكتاب الرائع لكريس هورنر "التفكير فلسفيا"، ومنها "الفلسفة ببساطة" لبرندان ولسون، ومنها "الفلسفة الأسس" لنيغيل واربورتون، ومنها الكتاب الممتع لمحمد الغنوشي والحبيب كتيتة "منهجية المقال الفلسفي في الباكالوريا" (سأكتفي بهذه الأربعة) ...
ليس هذا فحسب! فللفلاسفة حياتهم التي ألهمت في الكثير من جوانبها العديد من الناس .. ألهمتهم وشجعتهم ومنحتهم شعورا رائعا بحياة أجمل أو أقوى أو أعمق .. تفاصيل تلك الحياة يمكن مشاهدتها في سيرهم الذاتية التي دونوها بأقلامهم، أو في تلك التي كتبت عنهم. لا نريد أن نصنع من الفلاسفة رهبانا أو قدّيسين، ولكن لنكن صرحين، من منا من لا يحب أن يرى في "الفيلسوف الحقيقي" أكثر من مجرد عبقري غزير التحليل والنقد والمناقشة؟ كلنا نُعجَب، بنحو أو آخر، في اقتحام عوالمهم الخاصة ورؤيتهم كيف يتصرفون خلف جدران الابداع .. مشاهدة كيف يكون هذا "المتخيل اللذيذ"، المدعو فيلسوفا، يوميا؟ كيف يعبّر عن أشيائه ورغباته؟ وكيف يقضي وقته ويتعاطى مع احتياجاته؟ إن العقل الكبير يلهمن حتى في حدوسه ومضمراته الجوانية ومعاكساته للحياة الروتينية الرتيبة .. ومن يقرأ سيرة حياة برتراند رسل يعرف ما أعنيه.