نوهت أول من أمس إلى أن أصل الحجاب عراقيٌ وها أنا أتوقف عند هذا الأصل الذي لم أفاجأ به شخصيا رغم أنني كنت أجهله حتى أيام. ملخص ما جرى معي أنني، بينما كنت أراجع تشريعات آشورية تخص النساء في كتاب عنوانه "الحياة اليومية في العراق القديم"، إذا بي أمام مادة عن حجاب النساء لا يمكن إلا اعتبارها أصلا لا غبار عليه للفكرة. وبالفعل، ما أن تعمقت في الموضوع حتى عرفت أن باحثين عديدين أشاروا لهذه الأبوة الآشورية منهم المصري محمود زناتي، صاحب كتاب "قصّة السفور والنُقاب وإختلاط وإنفصال الجنسين عند العرب"، الذي اعتمد وفق ما يقول الكاتب سالم آيليا، على كتاب "العصور القديمة" لجيمس هنري براستد، والأخير عرض بدوره لشرائع آشور وبين أنها "تحتم على نساء الأشراف والأكابر أن يتخمرّنَ ولا يبرزنَ في الأسواق وبين الجماهير سوافر بلا نـُقـُب". هذا ما ينقله سالم إيليا ولم أتأكد منه شخصيا. حسب هذا الأصل، يبدو الحجاب الآشوري ذا طابع طبقي وليس أخلاقيا، بمعنى أنه كان إشارة تمييز للمرأة الحرة عن الجارية، من جهة، والبغي المقدسة، من جهة أخرى، وهي الفكرة عينها التي تقوم عليها أيات الحجاب في القرآن الكريم حيث فرض الخمار لتمييز حرائر المسلمين عن جواريهم، يقول الله سبحانه : "يا أيها النبي قـُلِ لأزواجك وبنَاتك ونساء المؤمنين يُدنينَ عَليهِن مِن جلابيبهن ذلكَ أدنى أن يُعرَفنَ فلا يُؤذَينَ وكانَ اللهُ غفوراً رّحيما"، وهو نفس محتوى أية أخرى تقول: "يا أيها النبي قل لأزواجكَ وبناتكَ ونساء المؤمنين لا يتشبهنّ بالإماء في لباسهنّ إذا خرجنّ من بيوتهنّ لحاجتهنّ فكشفنّ شعورهنّ ووجوههنّ ولكن ليدنين عليهنّ من جلابيبهنّ لئلا يعرض لهنّ فاسق إذا علمَ أنهنّ حرائر بأذى من قول". لذا فقد جرى خلاف بين العلماء حول المقصود من إدناء الجلابيب إن كان يشمل ستر الوجه واليدين وسائر الجسد أم إن المقصود به الجيب، أي الصدر فقط، وأبرز من قال بالرأي الثاني المفكر جمال البنا الذي يرى أن "الخمار التي كانت ترتديه النساء في ذلك الوقت هو زي تقليدي وعادة اجتماعية، وما جاء في القرآن هو أمر بتغطية فتحة الصدر وليس فرض الخمار". ويستشهد على ذلك بحديث مفاده أن النساء كن يتوضؤن مع الرجال في حوض واحد في عهد الرسول (ص)، وذلك يعني كشف الوجه والشعر والذراعين من أجل الوضوء. أما سيد محمود القمني فيعتقد أن الحجاب لو كان فرضا "فهو لتغطية الجيب، ولم يتحدث عن الرأس. فالخمر كان على الرأس كعادة بيئية صحراوية من الأصل". ثم يكرر ما قيل قديما من أن الآيات القرآنية أمرت "المرأة الحرة في زمن البعثة بتغطية صدرها كعلامة تميزها عن الإماء، فلا يتعرضن للتحرش أو الأذى". هنا يلاقينا الأصل العراقي الذي لا يقبل الجدل، الأصل الذي يثبته الباحث هاري ساكز في كتابه القيم إذ يورد المادة رقم ٤٠ من تشريعات النساء الأشورية ونصها يقول: "لا يجوز للنساء سواء كن متزوجات أم أرامل أن يخرجن إلى الشارع حاسرات، وإذا أخرجت سرية (جارية) مع سيدتها إلى الشارع فعليها أن تتحجب. أما البغي المقدسة التي تزوجها رجل فإنها تغطي رأسها في الشارع ولكن التي لم تتزوج فعليها أن تكشف رأسها في الشارع، عليها ألا تتحجب، الزانية العمومية لا تتحجب، يجب أن يبقى رأسها حاسرا، وعلى كل من يرى زانية محجبة فعليه أن يقبض عليها"، ثم تحدد المادة عقوبة صارمة للجارية التي تظهر وهي محجبة وهي خمسون جلدة بالعصي وأن يصبوا الزفت على رأسها. ولكن، هل العلة طبقية محض؟ ألا يشير الحجاب لما هو انثربولوجي؟ لماذا اهتم العراقيون كل هذا الاهتمام بالرأس وميزوه واعتبروه إشارة لمنحدر المرء وطبقته؟ ما علاقة الحجاب بالفوطة وما علاقة الفوطة بالغترة؟ أسئلة سوف أحاول تأملها لاحقا فانتظروني.
|