القيمر والتمر يهزمان الشر

معظم الوقت أنسى أنني في العراق ولا يعيدني للواقع سوى شيئين , الدوام الرسمي و صينية (صبيحه أم الگيمر) التي تدهم بابنا يومياً مع مغيب الشمس , منذ فترة أزدادت الأشياء التي توقظني لتصبح ثلاثة بعد قدوم طفلة صغيرة مبعثرة الشعر وهي تحمل أناء كبير للتمر رأيتها في المرات الأخيرة وهي تطرق بابنا لتعرض تمرها للبيع , الأناء الكبير (بألف) والأكبر منه بسعر (ألف ونص) , أصناف بحسب الطلب (برحي و مكتوم و تبرزل ) , يابلاش بلدنا جنة لولاالشياطين , في المرة الأخيرة سألتها أين بيتكم أجابتي أنهم يسكنون في بستانهم بعيداً خارج الحي , من هو والدك ؟ والدي (حمزه) , أعرفه ( فد واحد كلاوجي وأبو فليس) رددت ذلك بصمت , بقي البستان كنت أظنه أزيل بعد تغيرّ المنطقة وتوسيع الطريق , الطفلة تستيقظ من الصباح وتصعد للنخل لتملأ الأواني , طرحت عليها سؤال (التحليل) هل أن والدك يعلم ببيعك للتمر , أجابت نعم هو أحياناً يمنعنا لكنه في النهاية يشفق علينا ويغض النظر , تذكرت أن أمها ماتت منذ سنين و حضرت في تأبينها كونها تقرب لصاحبنا القائمقام (سيد كريم) , مشكلة التمر وهو من الأصناف النادرة أنه يحتاج الى (لبن) زبادي طبعاً ولكم أن تتصوروا ما يجب علي أحضاره يومياً ليتلائم مع كل هذا الكميات , كانت تحضر أكثر من مرة , الفائض يمكن خزنه في المجمدات والأمر مع التمر أهون من شراء القيمر ذلك الذي أخشاه بسبب الدسومة و الخوف من أنسداد الشرايين , ورغم ذلك في كل المرات نشتريه تعاطفاً أو أعتياد لافرق, صبيحة و الطفله شهد أنموذجان يجعلن المرء يتعاطف معهن لاشعورياً , فحين أرى أصرارهن الذي يصل الى درجة الهجوم من أجل البقاء أستعيد ما فقدت من أصرار وطموح , مخلوقات ينحتن الحياة في الصخر , صبيحة المعيدية تعيل عائلة وفوق عملها في توزيع القيمر على منطقتنا أصبحت تعمل بعقد في مصرف الرافدين , و(شهوّده) تجمع المال لتوفره للمدرسة فوالدها بعد زواجه من أمرأة أخرى لا يعطيهم فلس , بالتأكيد يختلفن عن اليائسين , أحدهم قبل أيام وكان (أسطه) يصلح سيارتي في الحي الصناعي في منطقة بعيدة وحين فتحنا باب الثرثرة كماهي عادتنا كعراقيين طرح علي نظرية غريبة , تفصح عن القنوط الذي أصاب الناس بسبب الواقع السيء , قال لي بصريح العبارة :
على الغرب أن ينتزع منا أطفالنا من عمر ثماني عشر فما دون و نسلمهم طواعية الى الدنمارك أو السويد أو أي بلد بعيد
وحين سألته : ونحن , ماذا يفعلون بنا
أجاب : يرموننا في التيزاب فنحن لانسحق غير الموت !
هاجمته بكلام كثير لا أتذكر الا آخره حين قلت :
للحياة أوجه عديدة , منها القاسية كما الحفر في الصخر و الدوس على الجمر ومنها السهلة التي يقضيها البعض بالكسل والنوم وهي معنا أو بدوننا سائرة يا أخا الشؤم , حين نعطي نهزم الفقر واليأس ونكون قد أنتصرنا للخير وهو في الحقيقة أنتصار لأنفسنا قبل الغير , لوعرفت حكايات الجنديات المجهولات لعرفت أنك شاذ في آخر الركب , فالأمر المؤكد أننا نعيش مشوار ينتهي بالحتم غايته ترك بصمة أو أثر يذكره القادمون بعد أن نغادر هذا الكوكب المليء بالنقيضين الخير والشر .