الحرية .. كلمة
كان طبيب الإغريق أبقراط يوصي أن يُعالج كلّ مريض بعقاقير من الأعشاب التي تنبت في وطنه .. فكيف أذا أصبح الوطن هو المريض ؟!. والمرض يستفحل كما السرطان في خلايا الجسد ، ساهر ويقظان .. وداء ولا دواء ، ولا سلوة ، ولا رقية ، ولا سلوان ، ولا شفاء ، ولا طبيب ، ولا أبقراط ؟!. وتحكي الأساطير عن عوليس بطل الملحمة الإغريقيّة ، أنه لمّا مات وفاضت روحه ، فإنها لم تجد لها مكاناً في هذا العالم الواسع تسكنه !. ولو عاش الحكماء والأساة والعرّافون في عصرنا ، لما قرأنا لهم ينصحوننا بقولهم : ( عسرك في دارك أعزّ لك من يسرك في غربتك ) ، ولا تجرّأ ذلك الشاعر القديم أن يحلف لنا الإيمان المغلظة في هذا البيت : لعمري لرهط المرء خير بقيّة .. عليه ، وإن عالوا به كلّ مركب ِ . ولا شيء يفجع القلب أكثر من المثل القائل : ( لا كرامة لنبيّ في وطنه ) ، وزهرات من البنفسج أتى عليها الدهر فأصبحت هشيماً . يُحزننا أن الأوطان تضيق بأبنائها ، وتتخذ منهم أعداء ، وعملاء ، وخائنين .. أو كما أخبرنا أبو العلاء : أولو الفضل في أوطانهم غرباءُ .. تشذ وتنأى عنهمُ القرَباءُ !. يؤسفنا أن يهاجر الطبيب الحكيم ، والمهندس الفنان ، والعالم الحاذق ، والصوت الجميل ، والباحث العظيم ، والوطني المخلص ، والمثقف البارز . يؤلمنا أن تعطيهم أوطان الغربة من الرعاية والاحترام ما لم تستطع أن تعطيهم أوطانهم . قالها يوما معروف الرصافي حين فتك به الجوع ، وعظمت الفاقة ، ورأى ثروات بلاده نهب الطامع الأجنبيّ الغريب : أأرضُ الهند أحسن من بلادي / وأحسن من بني قومي الهنودُ ؟!. العراقيون إما مهاجرون ، أو أنهم مرشحون للهجرة . يودّعهم مطار ، ويستقبلهم مطار .. تسأل : لماذا يهجر العراقيّ بلاده ، ويقيم في بلاد غريبة ؟!. فيأتيك الجواب شافياً وافياً : لكي لا عين ترى ولا قلب يحزن .. وماذا ترى العين غير هذا الجور والظلم والطغيان ، وطبقة من ساسة وحكام فاسدين جاءت بهم لحظة من عبث مصادفات تاريخيّة ، ونزعت عن وجوههم فائض الحياء ؟!. ولماذا يقيم الرجل الكريم على الضيم الذي لا يرضاه ( وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ) ؟.. لذلك ترى العراقيّ مهاجراً كما لو أنه فريد الدين في ( رحلة الطير ) ، أو لعله بطل رواية ( الغريب ) للأديب الفرنسي البير كامي . يحمل وطنه في حقيبة يده وجواز سفره ، ويطوف بهما العالم . ومن أسف أن تكون حياتنا مثل طير النورس .. نولد في مكان ، ونعيش في مكان ، ونهاجر إلى مكان ثالث ، ونحلم في مكان رابع ، ونموت في مكان آخر .. نعرف من أين ، ولا نعرف إلى أين ؟!. آخ يا بلدنا !.
|