نزال يخسر فيه الطرفان

ونحن نشهد انتصار العراقيين -شعبا لاسياسيين- في تغلبهم على قوى الضلال والظلام، المتمثلة في رعاع الدولة اللاإسلامية، تنتابنا قطعا غصة في المآل الذي آل اليه وضع العراق وأراضيه ومدنه، التي لم يكن عراقي يتصور يوما ان يطلق عليها تعبير (المدن المسلوبة). وهي الحرة الشامخة أمام احتلالات شتى مر بها البلد طيلة قرون مضت، إذ بقيت مدنه على مر التاريخ عصية على تلك الاحتلالات بأشكالها الفارسية الكسروية، والتترية والمغولية والعثمانية والانگليزية والأمريكية، وظلت كما هي بأهلها وناسها. اليوم تمر هذه المدن بغرائب وعجائب ناتجة عن انشغال ساسة البلد الذين تعاقبوا على عرشه، منذ استقلال الدولة العراقية حتى اللحظة بمنافعهم الشخصية والفئوية لاغير، فراحوا يتناحرون ويتصارعون في اقتسام المنافع، بدل التعاون على البر والتقوى. ومعلوم ان أي ضدين لو تناحرا يكون هناك بالنتيجة غالب ومغلوب، وكل طرفين اقتتلا يكون هناك -عادة- منتصر وخاسر، وهذا مادأبت عليه الخليقة مذ بدئها أمما وحضارات. اما الذي شهدته الساحة العراقية من تناحر واقتتال، فيختلفان كل الاختلاف عن تلكم التناحرات.

أذكر حكاية قديمة من تراثنا العراقي تقول أن هناك أبا له من الأولاد اثنان، لم يكونا على وفاق يوما، وما انفكا عن التناحر فيما بينهما ساعة حتى يعودا الى الشجار ساعات، فأراد الأب ان ينقل صورة عن نتيجة الاقتتال بينهما وما تسفر عنه الأيام القادمة لو استمرا على نهج الخلاف هذا. فأشار اليهما ان يأتيا بعصاتين كان قد صنعهما من ساق شجر نفيس واحتفظ بهما لقيمتهما المادية الثمينة، وطلب منهما ان يتنازلا أمامه باستخدام العصاتين، وجعل العصا التي يحملها الفائز هدية له. فاحتدم العراك حتى كسر الأول عصا الثاني، وفاز الأول بالمنازلة، فصارت العصا ملكه. ثم طلب منهما أن يأتي كل منهما بـ (تُنگه) -وهي المشربة المصنوعة من الطين المفخور- وطلب منهما أن يتنازلا أمامه باستخدام كل واحد منهما الـ (تنگه) التي في يده، ولما بلغ النزال أشده تضارب الإثنان بما تحمله يداهما، فما كان من الـ (تنگتين) إلا ان تناثرتا على الأرض كلتاهما، وخرج الإثنان من النزال خاسرين.

كان ذلك درسا بليغا أراد الأب ان يوصله الى ولديه، هو ان الصراع بينهما لن يسفر عن فائز او رابح او غالب، فالإثنان سيهزمان ويخيبان في نزالهما. ومثلهما كمثل الـ (تنگتين) فكلاهما من طين.

أرى ان لهذه الحكاية اليوم مايحاكيها في حيثياتها وصورها، وحتما يحاكيها في نتائجها كتلك التي وصلها وضع العراق الأمني، وهو مايحدث من صراعات بين الساسة وأرباب الكتل والأحزاب فيما بينهم، باستخدام ما طالته أيديهم وأذهانهم من مكر وخداع، لاسيما في مطالبهم لإتمام تشكيل الوزارات، الأمر الذي يخرج من طور التنافس المشروع في تسنم المناصب والارتقاء في سلمها، ويدخل في طور التنافس اللاأخلاقي وغير المشروع، وبالنتيجة تكون المردودات والنتائج في مصلحة تنأى عن مصلحة المواطن والمصلحة العامة. وقد فات أولئك الساسة المشاركين في ماراثون المصالح والمآرب الأنانية، ان كل متسابق له من النتائج إثنان لاغيرهما، فأما النجاح وأما الخسارة، إلا سباقهم فهم سينحون منحى ابنَي صاحبنا في حكايتنا المذكورة، فجميع من تنافس منهم من دون وجه حق، برفع سقف مطالبهم، لن يحصدوا غير الخسارة والخذلان أمام المواطن وأمام معيتهم من الشرفاء الذين سيكتشفون أمرهم فيما بعد.