بعيدا عن الحسابات الطائفية وخلفياتها وظنونها، وعلى مسافة من فرضيات التاريخ واحكام الجغرافيا في تمييز المدن ورصد مكانتها في صناعة الاحداث، فان مدينة الفلوجة المسكونة بثلاثة ارباع المليون من السكان، لاتختلف في محنتها، عن محنة بلدة آمرلي ذات الثلاثين الف نسمة، ولم تهادن محتليها الغزاة، مثلما لم تهادنهم تلك البلدة الصغيرة، فقد قدمت المدينتان، على تفاوت امكانياتهما واهمية موقعهما، آيات من مقاومة العصابة الفاجرة، على الرغم من ان للفلوجة، بخلاف آمرلي، مساهمة في السياسة وفي خارطة الصراعات بين الكتل، وثمة زعامات ومشايخ معارضة لترتيبات الحكم بعد الاحتلال وسقوط نظام صدام حسين، وساسة ولاعبون شاركوا في تلك الترتيبات وخوّض بعضهم في مفاسد الادارة والمال والسياسة، مثل بعض نظرائهم في العملية السياسية. وطوال ثلاثة أشهر، منذ سقوط الفلوجة بيد مقاتلي داعش حُشر سكانها الآمنون في نفق كابوسي مرعب، وحصار لا سابق لقسوته ولا إنسانيته، وسط اعلام موزع بين من يرتاب في اوضاع المدينة وسلامة موقف اهاليها من الارهاب ويحض على معاقبتها بجريرة العصابات المتحكمة فيها، وآخر، يختزل محنتها الى شعارات وتصفيات حساب وتسوّق على ابواب المحسنين في دول مجاورة، ولم يبادر فريق انساني احترافي الى الكشف عن النزيف اليومي في المدينة وحياة العذاب والرعب والمجاعة التي تضرب عشرات الالوف من العائلات المحاصرة والالوف الاخرى التي اضطرت للنزوح من المدينة. غير ان الصفحة الاكثر رعبا في احوال الفلوجة تتمثل بتجاوز العمليات الحربية ضد عصابات داعش واوكارها في المدينة الى حياة المدنيين وسلامتهم، وإخضاع السكان الى مشيئة العقاب الجماعي العشوائي فوق ما يعانونه من زمر “الخلافة” الداعشية الاجرامية، حيث تتسرب تقارير مخيفة عن الحقائق المروعة للمدنيين، ليس اكثرها أسى امتلاء المستشفيات المحلية، محدودة الامكانات والاستيعاب، بالجثث والمصابين والعويل. لقد جاء تحرير بلدة “آمرلي” من عصابات الردة تتويجا لسلسلة من التحضيرات والنداءات والمشاركات، فوضع محللون هذا الحدث في مكانه الصحيح كمعبر الى تحرير بقية البدات المختطفة والاسيرة، ويحسن ان توضع الفلوجة، في صدارة البلدات التي ينبغي انقاذها من السرطان التكفيري عبر سلسلة من الاجراءات والخطط المسبوقة بوسائل حماية المدنيين وتأمين صمودهم والعمل على منع وتحريم التجييش الطائفي ضد المدينة. لنتذكر ان اسم الفلوجة يعني في اللغة "الارض الصالحة للزراعة" حيث تتفلج تربتها حين يمسها ماء السماء عن خيرات الأرض، فلتعد الى ذلك الاسم والخصب، من هذه الرحلة الوعرة.
"للدعاية، في اغلب الاحيان، وظيفة بان تجعل الأسوأ يبدو وكأنه الأفضل". جورج سانتيانو- مفكر امريكي
|