مدخل في نعيم القبر وعذابه: الحلقة الأولى.. بقلم/ خلدون طارق |
يتداول على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بين الفرق الإسلامية المختلفة كالقرآنيين والسلفيين وغيرهم، نقاشات وجدالات بشأن عذاب القبر ونعيمه. فالأخوة القرآنيون ينكرون وجود عذاب القبر كليا، وينتقدون الروايات التي يتداولها أصحاب الرأي الآخر التي فيها من الأمور غير عقلية والمخالفة للمنطق في الظاهر، كونها تتحدث عن عذاب يقع على اجساد الأموات وعظامهم. والكثير من الاموات قد يبلى ويذوب جسده او قد يحرَق بفعل عوامل طبيعية او لشعائر دينية موجودة عند بعض الديانات. أما الطرف الآخر فهو يصر على التمسك بالروايات كونها وردت عن طرق وأسانيد كثيرة وأحاديث مختلفة وكتب متعددة وجرى تداولها على لسان السلف الصالح. لذا استوجب الأمر منا التدخل في هذا الموضوع وفك الصدامات بين اصحاب المدرستين من خلال توضيح بعض المفاهيم التي التبست على الطرفين، وتوضيح جوانب متعددة أسيء فهمها عبر التاريخ الإسلامي.
-علوم الدنيا والاخرة: نرى من الضروري قبل البحث في أمر عذاب القبر ونعيمه، أن نؤصل في وسائل استحصال العلم بالمنظور القرآني، وخاصة فيما يتعلق بأمور حياة الآخرة التي تبدأ بعالم البرزخ. فعلينا ان نفرق بين مستويات معرفتنا الدنيوية وبين حقيقة الوجود الجسماني في عالم البرزخ والآخرة. حيث ان كل مفردة نطلقها على عالم الآخرة، لا تعني شرطا ما يماثلها في الدنيا. فجسد الإنسان الحالي غير جسده في العالم التالي. فالحياة التالية لا تحتد او تتحيز مكان، وان أطلق اسم المكان والزمان على موضع ما في الاخرة فانه للتشبيه والمقاربة وليس إلا. فعندما يروي النبي عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام ان عذاب القبر يتضمن ضغط الانسان حتى تختلف اضلاعه وتحطم عظامه، فلا يقصد انه سيحصل ذلك على ما نعرفه الان من جسد الانسان، انما يعني جسما اخر ينشأ في نشأة الأخرى. ومن اجل تناول موضوع العلم والإدراك لدى الانسان، وجب علينا الرجوع الى القرآن الكريم الذي حدد لكل مستوى من المستويات وسائل المعرفة الخاصة به، وهي:
2-عين اليقين 3-حق اليقين ومن يقترب أكثر لهذه النار ليدركها بعينه وحواسه فهذه الدرجة الثانية وهي "عين اليقين". ومن يقبل على هذه النار ويصبح بداخلها ويعيها بكامل عقله وحواسه وكيانه فتلتهمه ليكون جزء منها قد وصل الى مرتبة الكاملة من العلم وهي "حق اليقين". لذا، فان الانسان في مرحلة بحثه عن الله تعالى يمر بتلك المراحل، فرحلة البحث عن الله تعالى هي الاساس لخلق الحياة والانسان، فالله تعالى يقول (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي ليعرفون كما فسرها اهل المعرفة بالله تعالى. وبما ان هذا الكتاب هو كتاب الله تعالى، فأنه السبيل المرشد إليه، وكما يقول ربنا عن الكافرين في القرآن الكريم (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) فقد بين تعالى الوسائل التي افتقدها الكفار للإيمان بالله وهو النقل والعقل (السمع والعقل). إن الوصول الى درجة إدراك الله تعالى ومعرفته معرفة كاملة هو غاية الانسان وفطرته التي تولد معه، فهو يبحث عن الذات العليا محاولا الالتحاق بها، لذا تجد الطفل الصغير ينجذب الى امه فهي الرب الذي يربيه في تلك الفترة الأولى من حياته بسبب الفطرة التي اودعها الله تعالى في خلقه. ان الانسان الذي يجاهد نفسه، ويقتل شهواته ورغباته، ويرتقي بروحانيته بتحمل الظمأ والجوع وشدة الابتلاءات، لا يشفي غليله بصيص النور التي تعطيه اياها الروايات والحكايات والاستدلالات الدنيوية الفلسفية، لأنه يطالب بمعرفة الله تعالى معرفة كاملة، ولا يرضى بغير ذلك. وأي وسيلة لا ترشده لهذا الهدف هي وسيلة قاصرة غير قادرة على ان تعرف الانسان بمعبوده الذي يفتش عليه.
يقول الله تعالى (اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) والانعام هنا هو الوحي الرباني والعلوم السماوية التي ينزل على قلب الانسان بشتى أنواعه. وحسب درجة صلاح العبد تسمى درجة إنعامه. يقول الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)، فحسب قول الله تعالى؛ الملائكة تتنزل على من يستقيم من عباده، وتوحي اليهم وتطمانهم في حالتي الخوف والحزن، بل وتبشرهم في الحياة الدنيا بنعيم الاخرة فيقول الله تعالى (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) نعم، انه كلام الله تعالى الذي لا تبديل له يجريه على قلوب العارفين بالوحي الملائكي السماوي فيتنعم العالم العارف بالخالق البارئ الذي جعل القرآن حكما على نفسه واستن بسنة الحبيب المحبوب عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام، فوصل الى معارف هذه المرتبة بفضل القران الكريم وبفضل الرسالة المحمدية. وهؤلاء عندما وصلوا الى هذه المرتبة من العلم لم ينطقوا لكون اللغة وسيلة غير قادرة على وصف العلوم هذه المنزلة، لذا قال ابن عربي رحمه الله تعال: فلذلك، ومن خلال هذه المقدمة نود ان نوضح ان وسيلة العقل غير قادرة على الإلمام بعالم البرزخ والمعاد كما الحال مع خاصية اللسان الذي يستطيع التذوق لكنه لا يستطيع التفكر والتدبر. ومع هذا القِصر، الله تعالى علمنا ان نقيس الغائب بمقياس الحاضر، ونلتمس أطراف وجوده بعقولنا اما كِننه الكاملة لا يعلمها الا هو ومن رزقه بنعيم الإلهام فيقول الله تعالى عن القياس في سورة الواقعة (60-62) (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ* عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ*وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ) فقِسْ هنا ايها الإنسان نشأتك الأخروية على النشأة الأولى، وقد اعطانا الله تعالى لمحات عن نشأة الآخرة عبر المنامات، فمن خلالها يقوم الانسان بواسطة عقله الباطن ان يخلق عالما من الموجودات المادية نحس بها ونتأثر بها وتؤثر على احوالنا المعنوية والصحية، وهي مجرد منامات لا وجود لها على ارض الواقع المادي، فان كان هذا نطاق العقل البشري فكيف هي مقدرة الله تعالى في خلق عوالم موازية لها بقدرته اللامتناهية؟! فقدرة الله غير محدودة، ولا يمكن للعباد الإحاطة بها، فلذلك يلجأ الله تعالى الى التشبيه ليقرب الأمر لعقلنا الدنيوي لان العقل مناط التكليف فهو يقول: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا ۚ تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا ۖ وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ) محمد 15 ولاحظوا كيف يصف الله تعالى الجنة بضرب "مثل" كما وصف الدنيا والتي هي نراها بأعيننا ونعقلها بعقولنا بانها "مثل" فيقول: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يونس 24 فعلينا ان نعلم من خلال هذه الأوامر ان النعيم والعقاب هي من عوالم الآخرة، لا ندركها بعقولنا ولا ابصارنا، انما هي عوالم مختلفة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب البشر. فالنعيم والعذاب سيتعرف عليهما العبد بحسب مراتب العلم اعلاه ففي الحياة الدنيا سيستدل عليها باثار نقلية وعقلية وفي عالم البرزخ سيراها عن كثب وهي درجة عين اليقين اما في الاخرة في مرتبة حق اليقين سيدخلها ويتحد بها . -اختلاط المفاهيم حول مفردة القبر: مما علق في أذهان الناس بان لفظة قبر تطلق على الحفرة التي يدفن فيها جسم الانسان، بينما هي في الحقيقة تطلق ايضا على المكان التي تأوي اليه الروح في عالم البرزخ. وهذه الحفرة التي تأوي اليها الروح، هي المكان التي تصف الاحاديث النبوية فيها حال الانسان بعد الممات وليس حال تلك الحفرة. فاغلب الناس يظنون ان مكان تواجد جثة الانسان في القبر هي مكان تواجد روحه بينما هذا خطأ. فلا مكان نستطيع ان نحصره لمكان روح الميت، فروحه في عالم غير مادي مختلف عن مكاننا ... يتبع ان شاء الله تعالى
|