عن الضلوعية وصورة الجندي

اليوم مساءً تأثرت مرتين، مرة بسبب رسالة وجهها لي شاب من مدينة "بلد"، والأخرى بسبب صورة أرسلها لي صديق عن طريق الفيس بوك. أمّا رسالة "بلد" فسأرجع لها لاحقا ولكن قبل ذلك دعوني أحدثكم عن الصورة. كانت صورة غريبة وتمثل جنديا عراقيا يجلس في ميدان المواجهة مغبّرا كأنه رقد لأعوام في الصحراء. وضع صديقي الصورة ثم سألني ـ ما التعليق الذي تستحقه هذه الصورة النادرة لأحد منتسبي الذهبية ؟ فقلت له ـ لقد اقشعر بدني لمرآه. 
نعم، الصورة كانت مهولة حتى أنني تخيلتها كنصب فني ينتصب وسط بغداد؛ الجندي يجلس في مؤخرة عربة عسكرية متحفزا بكل أحاسيسه، ممسكا ببندقية من العيار المتوسط، وحوله جلكانات مغبرة. هو ينظر للعدسة بتحدٍ بينما ملامح وجهه "متعوبة" وكل جسمه مترب. بعد حين كتب صاحبي يقول ـ هذا الجندي رفيق لولدي وهو يأبى إلا أن يحمل بندقيتين حين يقاتل. قال "رفيق ولدي" فاستحضرت صورة الابن الذي أرانيه صديقي قبل يومين أيضا. كانت معركة "آمرلي" في ذروتها وإذا به يرسل لي صورة مقاتل وسيم، يضع النظارات على عينيه والخوذة على رأسه ويبتسم في سيارة عسكرية. ومعها جاءت العبارة المباغتة - هذا هو ابني فلان يبلغك تحياته من "آمرلي".
تلك المرة اقشعر بدني أيضا مثلما اقشعر ويقشعر مع كل حكاية أسمعها ممن رؤوا المقاتلين وأنصتوا لوجيب قلوبهم. أمس مثلا عاد مراسل القناة التي أعمل فيها من "آمرلي" محملا بالقصص وبعضها يكاد يكون أسطوريا كما يقول. لقد روى لي عن أولئك الجرحى الذين يرفضون الإخلاء ويكتفون بشد جروحهم بما يتوفر لديهم من قطع قماش ثم يواصلون القتال. كان يروي وهو متحير في تفسير الأمر محاولا البحث عن كلمات تستطيع التعبير بدقة عما شاهده.
الحال أن تاريخ الشعوب مليء بمثل هذه اللحظات، لحظات نحسب أنها نادرة، ثم نفاجئ أحيانا وهي تتجسد أمامنا فنحار في تفسيرها. لهذا نتساءل الآن : لماذا تفجّر العراقيون، من الطائفتين، غضبا وتطوعوا بالملايين ليقاتلوا داعش؟ هل الأمر مجرد شعور جماعي بخطر يحيق بهم وببلدهم أم أن الأمر أبعد من هذا؟ ما هي هذه القيم العجيبة التي تجعل المرء يركض نحو الموت غير عابئ به؟ ما نوع الأرث الرمزي الذي يجد الشاب نفسه مجبرا على الدفاع عنه بكل هذه الشراسة؟ أي ذلك الدين المدني الذي يحدد هويته بصفته عراقيا، سواء كان من بغداد كابن صديقي أم من بلد التي راسلني ساكنها؟ 
هنا يمكنني العودة للرسالة التي نوهت بها، ففيها جواب لبعض الأسئلة كسؤالي عن مبعث تفجر الروح الوطنية الذي نحار في تفسيره. ذلك الشاب مثلا حرضني على التنبيه لصمود أهالي الضلوعية شبه الأسطوري كونهم محاصرين من ثلاث جهات من قبل الدواعش وما من منفذ لهم سوى باتجاه "بلد". إنهم يقاتلون بشراسة كما يقول وبمساعدة لا تتوقف من جارتهم اللدودة. أعني "بلد" التي يقول محدثي أن بينها والضلوعية تنافسا تاريخيا قديما شبيها بتنافس "عانه" و"راوه". ورغم أن المدينتين كـ"الحية والبطنج" حسب تعبيره، إلا أنه ما من شيء يؤرق البلديون اليوم كما يؤرقهم حصار الضلوعية الرهيب، الحصار الذي يشابه ما جرى في "آمرلي" حيث الجندي في الصورة يجلس متحفزا لدرء الخطر. 
الآن، هل ثمة جواب يضيء ما نراه ونسمعه عن إصرار العراقيين على دحر الإرهاب؟ نعم، ثمة جواب واضح وبسيط مفاده أن البلد يواجه خطر الزوال، زوال أمانه وتعايش جماعاته. أنه يواجه الموت والخراب والضياع النهائي، وهذا ما يجعل الجندي متحفزا في الصورة مثلما يجعل أهالي "بلد" يستميتون لمساعدة جيرانهم في الضلوعية. إنه، باختصار، مصير مشترك يجب أن ينسي الجميع كل ما عداه فتأمل أعانك الله.

 

 

‏عن الضلوعية وصورة الجندي 

اليوم مساءً تأثرت مرتين، مرة بسبب رسالة وجهها لي شاب من مدينة "بلد"، والأخرى بسبب صورة أرسلها لي صديق عن طريق الفيس بوك. أمّا رسالة "بلد" فسأرجع لها لاحقا ولكن قبل ذلك دعوني أحدثكم عن الصورة. كانت صورة غريبة وتمثل جنديا عراقيا يجلس في ميدان المواجهة مغبّرا كأنه رقد لأعوام في الصحراء. وضع صديقي الصورة ثم سألني ـ ما التعليق الذي تستحقه هذه الصورة النادرة لأحد منتسبي الذهبية ؟ فقلت له ـ لقد اقشعر بدني لمرآه. 
نعم، الصورة كانت مهولة حتى أنني تخيلتها كنصب فني ينتصب وسط بغداد؛ الجندي يجلس في مؤخرة عربة عسكرية متحفزا بكل أحاسيسه، ممسكا ببندقية من العيار المتوسط، وحوله جلكانات مغبرة. هو ينظر للعدسة بتحدٍ بينما ملامح وجهه "متعوبة" وكل جسمه مترب. بعد حين كتب صاحبي يقول ـ هذا الجندي رفيق لولدي وهو يأبى إلا أن يحمل بندقيتين حين يقاتل. قال "رفيق ولدي" فاستحضرت صورة الابن الذي أرانيه صديقي قبل يومين أيضا. كانت معركة "آمرلي" في ذروتها وإذا به يرسل لي صورة مقاتل وسيم، يضع النظارات على عينيه والخوذة على رأسه ويبتسم في سيارة عسكرية. ومعها جاءت العبارة المباغتة - هذا هو ابني فلان يبلغك تحياته من "آمرلي".
تلك المرة اقشعر بدني أيضا مثلما اقشعر ويقشعر مع كل حكاية أسمعها ممن رؤوا المقاتلين وأنصتوا لوجيب قلوبهم. أمس مثلا عاد مراسل القناة التي أعمل فيها من "آمرلي" محملا بالقصص وبعضها يكاد يكون أسطوريا كما يقول. لقد روى لي عن أولئك الجرحى الذين يرفضون الإخلاء ويكتفون بشد جروحهم بما يتوفر لديهم من قطع قماش ثم يواصلون القتال. كان يروي وهو متحير في تفسير الأمر محاولا البحث عن كلمات تستطيع التعبير بدقة عما شاهده.
الحال أن تاريخ الشعوب مليء بمثل هذه اللحظات، لحظات نحسب أنها نادرة، ثم نفاجئ أحيانا وهي تتجسد أمامنا فنحار في تفسيرها. لهذا نتساءل الآن : لماذا تفجّر العراقيون، من الطائفتين، غضبا وتطوعوا بالملايين ليقاتلوا داعش؟ هل الأمر مجرد شعور جماعي بخطر يحيق بهم وببلدهم أم أن الأمر أبعد من هذا؟ ما هي هذه القيم العجيبة التي تجعل المرء يركض نحو الموت غير عابئ به؟ ما نوع الأرث الرمزي الذي يجد الشاب نفسه مجبرا على الدفاع عنه بكل هذه الشراسة؟ أي ذلك الدين المدني الذي يحدد هويته بصفته عراقيا، سواء كان من بغداد كابن صديقي أم من بلد التي راسلني ساكنها؟ 
هنا يمكنني العودة للرسالة التي نوهت بها، ففيها جواب لبعض الأسئلة كسؤالي عن مبعث تفجر الروح الوطنية الذي نحار في تفسيره. ذلك الشاب مثلا حرضني على التنبيه لصمود أهالي الضلوعية شبه الأسطوري كونهم محاصرين من ثلاث جهات من قبل الدواعش وما من منفذ لهم سوى باتجاه "بلد". إنهم يقاتلون بشراسة كما يقول وبمساعدة لا تتوقف من جارتهم اللدودة. أعني "بلد" التي يقول محدثي أن بينها والضلوعية تنافسا تاريخيا قديما شبيها بتنافس "عانه" و"راوه". ورغم أن المدينتين كـ"الحية والبطنج" حسب تعبيره، إلا أنه ما من شيء يؤرق البلديون اليوم كما يؤرقهم حصار الضلوعية الرهيب، الحصار الذي يشابه ما جرى في "آمرلي" حيث الجندي في الصورة يجلس متحفزا لدرء الخطر. 
الآن، هل ثمة جواب يضيء ما نراه ونسمعه عن إصرار العراقيين على دحر الإرهاب؟ نعم، ثمة جواب واضح وبسيط مفاده أن البلد يواجه خطر الزوال، زوال أمانه وتعايش جماعاته. أنه يواجه الموت والخراب والضياع النهائي، وهذا ما يجعل الجندي متحفزا في الصورة مثلما يجعل أهالي "بلد" يستميتون لمساعدة جيرانهم في الضلوعية. إنه، باختصار، مصير مشترك يجب أن ينسي الجميع كل ما عداه فتأمل أعانك الله. 

http://www.alsabaah.iq/ArticleShow.aspx?ID=77217‏