مرض (فقدان المناعة المكتسبة) السياسي |
من الإنصاف ألّا نبخسَ حق أحدٍ من المسؤولين فنصفَه بصفةٍ لا تليق بمقامه ولا تتفق مع شأنه، بل يتوجب علينا أن نقول الحق ولو كان مراً كالعلقم، فإنه لا مفرَ إن كنا نريد وضع النقاط على حروفها وأن نسمي المسميات بأسمائها من تجرّع مرارة علقم الحق. إنه لمن عدم الانصاف أن ننساق وراء آفة الحسد التي قلما ينجو منها أحد؛ فنندفع للبحث عن معائب المسؤولين ورذائلهم وترفهم وبذخهم وقلة مروءتهم وسرقاتهم وأنانيتهم ونرجسيتهم...الخ، فالانصاف يقتضي منا أن نشهد لبعض المسؤولين بالنزاهة والورع والتقوى والعفة والزهد ومكارم الأخلاق... وأنا لا أريد هاهنا أن اتطرق لصفات يكثر تداولها عند الحديث عن المسؤولية كالجدارة والكفاءة والأهلية والمهنية وما أشبه، فهذه الصفات هي على الدوام عرضة للفقدان والضياع حالما يرتقي المسؤول سلّم المفاخر والأمنيات، ويشتط مبتعداً عن حضيض السفاسف والترهات... ثم إن هذه الصفات المتداولة لا قيمة لها ولا اعتبار إذا ما قورنت بسابقاتها من الفضائل الأخلاقية والخِلال المرْضية. فما هو ذنب المسؤول المسكين الذي يُمنّي نفسه اُسوةً بمن سبقه بالنطح بعد الشطح؟ وما هي جريرته لو أصيب بعدوى غيره من المخضرمين الثابتين في قطب رحى الصدارة والأولوية، والمقتسمين لطول البلاد وعرضها بالسوّية؟ أعني المداورون فيما بينهم زهر النرد في قاعة السؤدد والمجد؟ فطالما كان الجو موبوءً فالعدوى لا محالة واقعة حتى قبل وقوع الواقعة، والوقاية تكاد تكون معدومة بل هي في مثل هذا الجو مرذولة ومشؤومة. ولا مطمع بعد الإصابة بالداء بالبحث عن علاج ودواء، فهذا الوباء الذي يسري في الأماكن السيادية وينتشر المواقع الريادية لا يمكن شفاؤه، لأنه نوع خاص ونادر من مرض فقدان المناعة المكتسبة (الأيدز)، إنه يصيب جهاز المناعة المعنوية فيفتك تدريجاً وربما دفعةً بالنزاهة والجدارة والكفاءة والشفافية والمهنية... ولحسن الحظ فإن المسؤول المصاب بهذا الداء العضال لا يهلك في الدنيا بل يؤجل هلاكه إلى الآخرة، وحجز لنفسه مقعداً إلى جنب ذوي الوجوه الباسرة. وأما موضع الإصابة بالفايروس المغمور فليس ببعيد عن الموضع الذي يلج منه نظيره المشهور، فالفايروسان (الحسي والمعنوي) ينتقلان من جهة واحدة مع اختلاف المدخل، لإن الفايروس النادر يصيب الانسان بعد أن يستوي جالساً على كرسي المسؤولية ويؤدي طقوسه عليه بأريحية، فهو إذاً قريب من موضع دخول سميه ونظيره... وارى أن كثرة التلميح توشك أن تجرنا إلى البوح والتصريح، ونحن في الواقع لا نريد أن ندخل في السياسة أكثر مما يجب. |