قد كنت يوماً مع صديق بصدد الحديث عن موضوع (الفرص) التي تأتي للبعض ويحرم منها البعض الآخر، وجرّنا الكلام إلى ذكر الثوابت التي بموجبها تحضر الفرصة أو تغيب، ومنها: الحظ والعلاقات والكفاءات والمواهب... ولقد طاب لنا الحديث في هذا الموضوع كثيراً فانبرينا نتجاذب فيه أطرافه، حتى لكأنّ (واهب الفرص) قد أشفق علينا فحبانا بفرصة الحديث عن الفرص. ثم عرّجت أشكو إلى صاحبي ضياع (فرصة) تركت مع مرور الوقت في نفسي غصّة، مع أن ضياعها لم يكن عن تقصير مني ولا تفريط. وحينما استمع متحدثي إلى التفاصيل احتدّ واستشاط وصارت الالفاظ تتطاير منه كما الشرر المتطاير من النار، ولا أنكر أنني أنا من تسبب في استشاطته وأشعل أوار شرارته، وذلك حينما عقدت مقارنة بين (واهب الفرص) في العهد البائد وواهبها في هذا العهد الراشد الواعد، وأثنيت على حذاقة الأول في توزيع الفرص طبقاً لصلة القربى في النسب أو المذهب أو تبعاً للولاء العشائري والجغرافي، حيث كان يفوز بها على الدوام: التكريتي والعاني والراوي والدوري وأشباههم، وكان الأمر حينها يبدو معقولاً ومقبولاً، فما دام النظام يرفع راية الطائفية وشعار القرابة الأسرية ومبدأ الموالاة العشائرية فأين الغرابة؟... ولكن بعد أن دار دولاب الدنيا دورته فارتقى من لم يكن راقياً وانخفض من كان مرتفعاً، تغير كل شيء في الدولة العراقية إلا شيء واحد هو اسلوب توزيع الفرص، فلم يزل أخوتنا ابناء الغربية وهم أيضاً شركاؤنا في الهوية الوطنية، ينالون حظاً وافراً من مختلف الفرص الذهبية والفضية والبرونزية، والسر في ذلك أنهم قد نجحوا في تسخير إمكانات الديمقراطية وما يترتب عليها من المحاصصة الحزبية لصالح جماعتهم، فحين استشعروا أن نظراءهم قد آلت إليهم الحظوة بالاستيلاء على السلطة النتفيذية، كثّفوا جهودهم لنيل المكاسب والمناقب انطلاقاً من مواقعهم في سائر السلطات، واستمروا على نهجهم القديم الذي أسسه لهم الزعيم باستئثار الأقارب والصواحب فضلاً عن أخوان المذاهب فأتحفوهم بكل حبوة وفرصة. ولو كان الأمر يقف عند هذا الحد لكان مفهوماً ومبرراً، إذ ما دامت الديمقراطية (بكل حمولتها التفسيرية) تمنح هذا الامتياز للمسؤول فيستطيع تقريب من يشاء وتبعيد من لا يشاء، فما المانع من استفادة شركائنا الكرام من هذا الامتياز بأقصى ما يمكن؟ لكن الشيء غير المفهوم وغير المبرر هو ما يجري في الواجهة الأخرى والضفة المقابلة، فإن مسؤولينا ومن يفترض بهم أن يكونوا ممثلينا بعد ان اطمأن بهم المقام في مراكزهم وصار نسيم الفرص يهب عليلاً من فوق رؤسهم (وكان المتوقع أن يعوضوا المحروم ويجبروا بخاطر المظلوم) لم يفعلوا شيئاً سوى أنهم آثروا القريب والنسيب والحبيب، وتشاغلوا عن غيرهم من أبناء جلدتهم ومدنهم ومذهبهم، بل إن من تأتيه الفرصة من هؤلاء طواعية وباستحقاق وبكد واجتهاد يُذاد عنها ذوداً ويصرف عنها عنوةً، فتضيع حينئذٍ هدراً وتذهب سدى. حينما شرحت لمتحدثي تفاصيل ما جرى عليَّ من المظلومية (من بعد تقديم هذه المقدمة التاريخية)، وأوضحت له أنني قد كنت ممن استحق أن يوصف بالضحية، قال لي بالحرف الواحد (بعد أن قام على رجليه منتصباُ وهو منتفخ الأوداج محمر العينين): يا أخي، لماذا لا تضع يدك بيد يهودي وإسرائيلي؟ وأقسمَ صاحبي بالله أقساماً مغلّظة أنني لو فعلتها لما ضاعت فرصتي ولما صارت اليوم بضياعها محنتني.
|