الحرية .. كلمة جاءنا الأميركيون بكسر لا يقبل الجبر ، وبشقّ غير قابل للرقع ، وبجميع الغرائب والبِدَع غير القابلة للكفّارة والتوبة والغفران . استحدث مشروعهم الطائفي مفردات لم يحفل بها معجم ، ولا قاموس ، ولا ناموس . من المكونات والأطياف إلى الأعراق والكتل والأقاليم والفيدرالية ، ذبحت الوطن وحاضره ومستقبله . أحلامه وآماله . لم تكن الطائفية مجرد صورة كلامية ، ولا لوحة فوتغرافية . تعامل مروّجو المشروع الأميركي مع الهوية العراقية بجوائز ترضية وزّعت الوليمة من المناصب والوظائف ، كما لو كانوا يوزّعون نصيباً من حصص وأسهم في ارث من قسّام شرعي وصفوه بالحقوق الطائفية . وتحمّل العراقيون من الأثمان قتلاً وتهجيراً وتهميشاً واجتثاثاً وجوعاً ، وليشعروا أنهم جميعاً في هذا الوطن معذبون . ومرّت بنا سنوات من ظلام مشبوبة بالخوف . تفكّكت فيها روابط وصلات ، وافترقت بيوت وعائلات . وكانت وما تزال طواحين الموت تدور بالجثث ، والمقابر مفتوحة الشهيّة لمزيد من النعوش . أليس غريباً إن العراق الذي تعايشت على أرضه العقائد والرسالات والطقوس والأساطير وجميع أديان السماء : المسجد والكنيسة والمعبد يصعب أن تتعايش طائفتان من دين واحد في حيّ سكاني واحد ؟!. ليس من العيب أن يكون رئيس الجمهورية كردياً . ولماذا لا يكون ؟. ولا من الخطأ أن يكون رئيس الوزراء شيعياً ، أو رئيس مجلس النواب سنيّاً . لكن الخطيئة أن يحصلوا على مناصبهم عبر الباب الطائفي . كان شارل ديغول يقول : ( أنا أخذت سيف فرنسا مكسوراً ، لكنني أمسكت بمقبضه وفي يدي نما له نصل ) . أين لنا بديغول وزمانه ؟!. لنعترف دون مكابرة ، ما لم تحدث معجزة لن نتحول من طوائف إلى شعب ، ومن شعب إلى سلطة ، ومن سلطة إلى دولة ، ومن دولة إلى أمة . المشكلة كبيرة وستولد في هذه العتمة ، لو بقيت ، أجيال جديدة تأكل وتشرب من ثقافات طائفية ، ومن تفخيخ الكتب والأغاني ، ومدن تتحصّن وراء المتاريس ، وحيّ معزول عن الحيّ المجاور بحيطان من اسمنت ، ووطن أقلّ من خريطة . اليوم بتنا نعيش أسوأ مراحل التاريخ طائفية ، وأصبح لا مكان للسلامة الوطنية والصحة النفسية ، ومن ينادي بالضمير الوطني لا يمكن سماعه حتى لو جاء نداؤه بحجم صرخة . لم ندرك أن التاريخ بحر من متناقضات لا يستطيع أحد مهما حسنت نيّاته أن يتركه نائماً في غرفة معقمة . لم ندرك أن التركيبة العراقية لا تستطيع أن تتحمّل تناقضات الإقليم . لم نعترف أن الصراع الطائفي في بلدنا هو نتاج صراع إقليمي تحت الرعاية الأميركية لجميع أطرافه . لم نلتفت في لحظة إلى ذلك اللقاء المشترك الجميل بين دجلة والفرات في شط العرب يجمعهما رباط وطني وثيق ، بمواريث التاريخ وثوابت الجغرافيا . وإذا كان لا بدّ من حساب أصحاب الدعوات الطائفية ومحاكمتهم قضائياً ، فهذا يعني إن علينا أن نراجع مرحلة بأكملها .. وإلا فإن جميع الدعوات تصبح في غير محلّها ، وخارج السياق ، وقفزاً على الواقع ، وحكماً أعور .
|