التسكع في مدن الصمت، دعوة للأمل |
رحلة بلا زورق في بحر "تحت رماد الصمت" للشاعر التونسي محمد الصالح الغريسي هذه مجموعة تختزن شوقا للعراق يتفجر من جوانبها، تقرأها فتثير فيك لواعج الحب والأمل والألم؛ حتى تبكي بحرقة مثل طفل أضاع لعبته بعد أن حل الظلام. هذه مجموعة كتبت لتستنطق جرحي الغائر فتستفز روحي، وتبعث فيها قمة التحدي والإصرار بدل الهزيمة التي سكنتها منذ دهور. هذه مجموعة حلم أخضر يجب أن لا يخلو منه أي بيت عراقي شريف، ولذا لا تعتبوا إن كنت أتغزل بها، فقد جاءت كلماتها دواء لجرح ليس له قرار، تعاون الأهل وأبناء العم على نكأه كلما سكن، فجاءت كلماتها بلسما للجراح.
لقد أراد الأديب محمد الصالح الغريسي ومنذ الوهلة الأولى أن يصدمنا ويجازف بنا من خلال الإهداء الذي كتبه لمجموعته "تحت رماد الصمت" والذي قال فيه: "كلمات من رماد خريف العمر إلى كل الذين أزهر الربيع في حدائق أعمارهم عل أيامهم تغدو ربيعا على الدوام". إذن هي ممارسة لنقل تجربة ثرة من أديب يشعر انه يعيش خريف العمر إلى الجيل الصاعد عله يفيد من تجربة صقلتها محن وامتحانات العمر لتحولها إلى نشيد يتجاوز الأزمنة ليحط في أي ارض صالحة للنماء، عله يورق أملا ويزهر نفعا في عالم يلفه الضياع وتقوده الفرقة والكراهية. إن الأستاذ الغريسي أديب تونسي، ربطتني به علاقة صداقة جميلة منذ عدة سنوات حينما كنا هو وأنا؛ نكتب في موقع صحيفة المثقف، وقد شدني إليه اهتمامه بالشأن العراقي، ربما أكثر من اهتمامه بشأن تونس، وهذا سر بقي معلقا بفؤاده لا يريد أن يغادره، كما سيتضح من خلال رحلتنا في بحر مجموعته. واقعا معروف وبديهي جدا أن العلاقة العامة بما فيها العلاقة الأدبية؛ بين مشرق ومغرب الوطن العربي تشكو نوعا من القطيعة التي فرضتها السياسة والجغرافية والثقافة العامة عبر التاريخ، ولاسيما حديثه، إلا أن المواقع الالكترونية أسهمت في نشوء علاقات متينة بين المثقفين، تطورت إلى صداقات دائمة وتتبع دائم، ففتحت أبواب التعامل والتعاون والتواصل بين المشرقين. وبحكم هذه العلاقة أهداني الأديب الغريسي قبل عدة سنوات واحدة من أجمل قصائده، حيث نشرها في الانترنيت، وعنوانها "رسالة"، جاء في مقدمتها، قوله: "إلى الأخ الأديب الباحث صالح الطائي... إلى أهل العراق بكل أعراقه وأديانه ومذاهبه وطوائفه وألوانه السياسية.. دعوة إلى التآخي والتسامح تأسيسا لعراق يحلو فيه العيش للجميع"(1) وقال في قصيدته: يا طائر الشرق الجريح كفى كلاما فاللوم لا يشفي، ولا يبري السقاما إن كان جرحك في الجناح له التئام فالجرح آلمنا وقد بلغ العظاما إن زرت ارض الرافدين فدتك روحي عرج على الطائي أقرئه السلاما من أخوة صدقوا المحبة إن أحبوا ما خالفوا في الوعد يرعون الذماما أوص الأحبة في العراق بلا توان بالحق والصبر الجميل لهم وساما ما فاز قوم في الحياة لهم خصام فدعوا التباغض والتقاتل والخصاما إذن ما يفوح من بين حروف هذه القصيدة هو حب للعراق ولصديقه العراقي المتيم بالعراق، هذا الحب تحول عند الأديب الغريسي إلى شغف، حيث تجده منتشرا كلوح ورود برية في أرجاء المجموعة،منتشرا كما تنتشر البلابل في الروض الغناء. هذا الاهتمام البالغ لم يأت من فراغ، ولم تتحكم به العاطفة، فبعدما لمس الغريسي أن بعض الأعراب أساءوا إلى أنفسهم من خلال إساءتهم للعراق وأهله، أراد أن يرد لهم الصاع صاعين: أراد أن يضرب عصافير عديدة بحجر واحد ونجح. أراد أن يمتدح العراق ويعلنه وطنا ثانيا له، والشواهد في المجموعة كثيرة. أراد أن يعلن حبه على العراقيين بعد أن أعلن الآخرون حربهم عليهم. ولذا قال: يا أهل الكرخ والرصافة يا أهل العقل والحصافة يا أهل أربيل البهية والبصرة الأبية يا أهل العراق يا أهل الوفاء والوفاق ها أنا ذا أعلن عليكم الحب فإن مت فادفني بين أشجار النخيل في روضة العشاق عشاق العراق(2) أراد أن يلقم من يتطاول على العراق حجرا يخرسه، وهل من حجر يخسر الأعداء أكبر من كلمة حق وحب تصدر من قلب طيب؟. أراد أن يحيي روح "المصير العربي المشترك" التي خنقها الحراك السياسي والطائفي مؤخرا من خلال التغزل بالنخلة رمز العراق، فقال: إليك يا محبوبتي، تنتهي اليوم رحلتي يا صاحبة القوام الرشيق يا معشوقة العشاق يا نخلة العراق(3) أراد أن يزرع عند العراقيين روح الأمل بغد مشرق سعيد، بعد أن أكل اليأس قلوبنا، كما في قوله: سيخرج من تحت الرماد عراق يحلق فوق سماء الخليج بألف جناح ويخرج من صمته دجلة يضمد جراح النخيل وتختال عشتار بين الشوارع تهدي الصبايا أزاهير حب وتمسح دمع اليتامى ويغسل ماء الفرات شوائب هذا الزمان الرديء ويبعث من خلف كوم الدمار عراق.... عراق (4)
هذا هو الأمل الذي أراد الغريسي أن يحييه في نفوسنا وفي ضمائرنا، مراهنا على بقايا الطيبة فينا، ووشل الفطرة التي لم تلوثها بعد حراكات الطائفيين، وعن هذه المفردة بالذات، مفردة (الأمل) سيكون حديثي، فالقصيدة السابقة والقصيدة التي أهداها لي لم تكن مجرد إشارة عابرة إلى جرح ومحنة العراق، بل كانت مقدمات لبوح غير منقطع يترجم مقدار الحزن الذي تحمله روح الشاعر وهو يرى العراق يسبح في بحر من الدماء والدمار والخراب والكراهية، فجاءت كلماته العذبة لتكون دعوة لفتح باب الأمل أمام من عانوا من الكمد حتى ظنوا أن أبواب المستقبل غلقت دونهم ولن تفتح من جديد. أنوه إلى أني قبل أن أباشر بقراءة هذه المجموعة؛ كنت مشغولا بإنجاز آخر كتاب لي وهو بعنوان: "الحكم الشرعي لتهجير المسيحيين، رؤية قرآنية" تناولت فيه محنة الأخوة المسيحيين، ورأي الإسلام الحقيقي بالتهجير والسبي، وقد اخترت أن تكون آخر الكلمات فيه، عبارة: "من الجميل أن تزرع الأمل في نفوس الآخرين، ومن الأجمل أن تعينهم على تحقيق الانتصار" لأجد أن الأخ الغريسي قد سبقني لهذه الدعوة، فقد ضمن أغلب قصائد المجموعة دعوة للأمل، دعوة للحلم بمستقبل سعيد يملأه التحدي، فهو بعد قوله: "سيخرج من تحت الرماد عراق" الذي يذكرنا بطائر الفينيق، عاد ليقول: "ويبعث من خلف كوم الدمار.. عراق ..عراق" ثم ليقول: "ومن بين أصابع الفجر تتفجر ينابيع الأمل .. ترسم وطنا للنخيل"(5) ثم ليقول: "غدا يكون للحياة مذاق ... والى العراق يعود العراق"(6) وليقول: "تعلمنا معادلة الحياة... نصنع من أنين الحاضر ترنيمة اللحن القادم ... لحن الربيع"(7) إن الجزء الأكبر من قصائد المجموعة يشكو وجع العراق بحسرة وتلهف، لكنها شكوى لا تبعث اليأس في النفوس، وإنما تحثها أن تجاهد وتناضل أملا بالانتصار على النفس أولا وعلى العدو ثانيا. لقد أراد الغريسي أن يقول للعراقيين: إن جراح العراق لا يضمدها إلا العراق، وان الغد كفيل بشفاء تلك الجروح فانظر إلى رائع قوله: غدا وعندما يقبل الصباح من جديد مدينة الرشيد وتفتح الأبواب للطريد والشريد وعندما يغرد الكناري ويصدح الحسون بالنشيد وعندما تمشط نسائم الصباح جدائل النخيل ويرجع الحمام للهديل وعندما يضمخ الضياء مياه دجلة الجريح وعندما يصافح الشمال شمائل الجنوب وتلتقي القلوب كما التقى الفرات ودجلة العنيد بشاطئ العرب وعندما يضمد العراق للعراق جراحه العميقة أعود يا عراق من غيابة المنافي وظلمة السجون وارتمي بحضنك الحنون(8) أما في قصيدته الرائعة "أحلام عائد من المنفى" فقد جمع الغريسي كل صراعات روحه ليطرحها برهانا على حبه للعراق الذي يحلم أن تستقر سفينته فيه بعد أن يتطهر مما أصابه من درن السنين، هكذا يخاطب الغريسي العراق: أخية روحي لقد ضج مني الرحيل وها أنذا منذ دهر أقلب وجهي بين المنافي أفتش عن وطن للنخيل فلا النيل حن لنخلي ولا بردى ولا رام عيري فوارس نجد ولا أهل ارض السليل فنخلي يموت إذا فات أرض العراق(9) ويقول في القصيدة نفسها وفق رؤاه في بث الأمل في نفوس العراقيين: أبنت الرشيد أنا عائد من بلاد الشتات وعصفور شوقي يحن إليك ويهفو كما قد هفوت ويهفو إلى نهر دجلة نهر الفرات انا عائد والأماني كبار إلى باسقات النخيل لأبني بيتي الذي هدمته أيادي العتاة(10) أقول هنا: صحيح أن الذي حدث في العراق منذ 2003 كان خارج أفق المعقول إلا أن ما في قصائد الغريسي لم يكن تصويرا لذلك النتوء الشاذ بقدر كونه استشرافا للمستقبل، استشرافا للساعات المرة التي يمر بها العراق اليوم، فالقصائد السابقة قيلت في السنوات 2009ـ2010 ولكنك حينما تغوص في أسرارها تستخلص رؤية لما يمر به العراق اليوم بالرغم من كون هذه الصورة لم تكن واضحة يومذاك: تذكر الخراب والدمار تذكر النخيل في العراق وطفله المعاق وألف قطرة وقطرة من دمه المراق فمن تراه يدفع الثمن سوى الوطن(11) إن ما في هذه المجموعة من تغني بالعراق وأهله، في قسمها الأول بالذات، ثم تلك القصائد الوطنية والغزلية في قسمها الثاني تحتاج إلى أكثر من وقفة، ولذا ستكون لي عودة إلى هذه المجموعة الرائعة. صدرت مجموعة "تحت رماد الصمت" عن دار المجال للنشر في تونس، بمائة وسبع وعشرين صفحة، تزين غلافها لوحة للفنانة التشكيلية المبدعة "نزهة الرواني"
الهوامش المجموعة، ص 14 قصيدة " في لحظة القرار" ص39 يا صاحبة القد الملكي، ص52 من قصيدة "لماذا"، ص 10 قصيدة ينابيع الامل/ وطن النخيل، ص12 قصيدة ينابيع الامل، ص13 قصيدة ترنيمة اللحن القادم، ص21 قصيدة "غدا"، ص 26ـ27 قصيدة أحلام عائد من المنفى، ص31ـ32 قصيدة أحلام عائد من المنفى، ص33 قصيدة الرجل الذي أجهش بالحب، ص37 |