عراقيون ومطارات
كنت أغادر هولندا حين سألني ضابط المطار الهولندي الشاب وهو يتصفح جوازي: (عراقي؟ من أية مدينة؟)، وحين عرف أني من بغداد عاد ليسألني: (أهي آمنة، وهل الحياة طبيعية فيها؟)، قلت له: (نأمل ونعمل كمواطنين عراقيين من أجل ذلك).
زمّ شفتيه مبتسماً قبل أن يعبّر بلطف واضح عن تمنيات طيبة لنا ولبغداد.
ما لم يقله الضابط الشاب، وكان متوازناً بين أن يبدو حائراً وأن يبدي لطفاً في المجاملة، هو ما كان يمكن أن يعبر به عن حيرته إزاء داعي عودتي وزوجتي إلى مدينة يتوقع مدى خطورة الاقامة فيها.
شخصياً لم أواجه مشكلة في مطارات أوروبية كثيرة مررت بها، فإن تعود أو احتمال أن لا تعود هما سبب مشاكل كثيرة لكثير من العراقيين سواء في مطارات دول عربية وإسلامية أو دول أوروبية، لكن الملاحظ على هذه المشكلات أنها تتكثف عند الدخول وهو أمر متوقع، بينما يتيسر كل شيء عند المغادرة، وهو تيسير يشبه الخفة واللطف الملفق الذي يبديه ربّ بيت عند توديعه زائراً ثقيلاً.
في مطار عربي (ولا أذكره هنا لخشيتي من احتمال مروري به ثانيةً)، وكان مروري به قبل سنوات ترانزيت لأربع ساعات قبل أن أطير إلى باريس التي كنت مدعواً حينها لمعرضها الدولي المهم للكتاب، طلب مني الضابط الذي دقق جوازي عند نزولي في المطار قادماً من بغداد أن أصحبَ شرطياً نادى عليه ليدلني على المكان الذي يجب عليَّ قضاء الساعات الأربع فيه لحين وقت مغادرتي. كان الضابط متجهماً، فلم يرد على شكري له، سلم جوازي بيد الشرطي الذي طلب مني أن اتبعه، فتبعته.
بعد مسير صامت لدقائق في المطار، فتح الشرطي باباً وطلب مني الدخول والانتظار، وحين دخلت أغلق الباب ورائي لأجد نفسي رهنَ الاحتجاز في غرفة ضيّقة بين عدد من المشتبهين من جنسيات مختلفة.
كان الموبايل معي ففكرت بالاتصال بعدد من وسائل الإعلام لتسريب خبر احتجازي أو توقيفي الذي فوجئت به ولم أعرف داعيه وما سينتج عنه لكني ترددت خشية تعقيد الأمر وفضلت انتظار النتيجة قبل أي تصرف مني قد يطيح بالسفرة كلها.
انتهى الأمر قبل موعد اقلاع الطائرة بنصف ساعة حيث جاء الشرطي ذاته واصطحبني بالصمت نفسه إلى حيث أغادر، فغادرت بمشاعر مقبوضة عكرت يومين من أيامي الباريسية.
لكن بعد هذا بعام قدم موظفو مطار عربي آخر صورة أخرى غير متوقعة عن رجال أمن المطارات العربية. حصل هذا في مطار كازابلانكا، وقد نوهت عنه أكثر من مرة، حين هبطنا (وكنا خمس رؤساء تحرير صحف عراقية) ترانزيت فيه ونحن في الطريق إلى مونتريال في كندا. كان وقت الترانزيت طويلاً (ثلاثة أيام) وكان ينبغي بموجب تعاليم المغرب أن نستحصل فيزا قبل صعود الطائرة من بيروت إلى كازا.
استفهم منا ضابط شاب عن كل ذلك، وطلب أن ننتظر، عاد بعد خمس دقائق اتصل حتماً خلالها بمسؤوليه، ليسأل ما إذا كان فينا من يدخن، جميعنا مدخنون، وزع سجائره علينا، وقدم لنا ورقة مختومة، وقال: (ستكونون ضيوفاً في فندق المطار، وستكون سيارة تحت تصرفكم وسيكون لكم بموجب هذه الورقة حرية التنقل حيثما شئتم في أرض المملكة خلال ايامكم الثلاثة)، فكانت من أمتع الأيام وأكرمها.
لم تخسر المغرب شيئاً لكنها كسبت بحسن تعاملها احترام خمسة كتّاب، وآمل الآن أن يجري تيسير منح الفيزا للعراقيين الراغبين بزيارتها لتتعزز مصداقية ما أوردته عن كازا ومطارها وسلطاته.