تحية لآمرلي في الغربتين..

في المدن العتيقة, لا توجد رائحة دمٍ أو بارود, ولا أزيز لرصاصٍ لاهث إثر دويّ المدافع؛ هناك فقط رائحة الجمال, وصوت الموسيقى..رائحة الأزهار, أو النساء, وحتى للخمرِ لون الإقحوان ورائحة الجوري. يغفون على آلاتٍ تراقصها أيادِ المبدعين, ويصحون على توسلات إمرأة جملية تغازل الأرض ومن فيها, لا تتباهى بجمالها؛ إنما تقدّر قيمته, فتكشف عن إنوثتها العذبة لتطفئ لهيب الأرواح الشقية!..
هل تستطع تماثيل الشمع مخاطبتك؟!..هكذا هو الجمال, إن لفّته قيود التقاليد العليا والسفلى..كيف لرحيق هذه الشفاه أن يُعز على نحلة؟!..لماذا خُلق إذن؟!..شفاه متقدة, تبحث عن نهرٍ تطهره, وبه تذوب, لماذا أتقدت إن لم تجد النهر؟!..
كلها, تتحد, لتصبح إمرأة, تتزين وتلبس أبها حلتها, أجمل عروس في الكون, هي هنا..موسم الزهور, أو الربيع المتجدد, كلهم يساهمون بخلقه. من يتيه في دروبها محظوظ, كالذي أظل السبيل في صحراء, ووجد جنةِ عدن!..لا غلو؛ إنها (بيتربرغ) عروس الشمال, تلك التي تحكي آثارها, مقابرها, تماثيلها, ويوم نصرها الكبير؛ قصص البطولة الشرسة.
قالت لي إستاذتي (الدكتورة إنيستا): إنّ جدّها كان أحد أبطال مقاومة النازيين, وقد جُرح في أحدى المعارك. لماذا تبكي وهي تسرد لي حكاية جدها؟ إنها تستذكر ما سمعته عن ذكرى الحصار, والشهداء, وكيف إنهم صنعوا لهم المجد, والحياة المترفة, وتحولت أقاصيصهم لمتعة جديدة تضاف لزهو الدنيا هنا..
هل سنصمت عن آمرلي وكأنها شيء عابر؟!..لا, ستُشمل بمنحة النازحين, أو على رواية أخرى, "بمنحة المليون"..هنا يكمن الفرق الشاسع, فلدينا من يُدجن قضايانا, لتصبح أوراق نقدية, تموت القضية, بصرف آخر تلك الأوراق!..
إن قُدر لذلك الصمود الأسطوري, فثمنه سيكون باهض, لا يقدر عليه شُح الحكومات؛ الأيام وحدها, ستنجب أجيالاً يكتبون قصة الدم والجوع المنتصر هناك. أقسم أني أراها عبر الأزمنة, ستكون قبلة, وواحة, لا يعرف أحد سر تميّزها..تلك الصغيرة التي أذلت جارتها الكبيرة المنبطحة تحت سياط "داعش"!
آمرلي, عذراً, وسلاماً لك من غريب عذبته أيام حصارك, وأسعده إنتصارك؛ غربتك بين قرى الجاحدين حملتها, لتضاف إلى أحمالي الثقال..وعداً, سأتوضأ بترابك الطاهر, وأحمله معي, فمنه نستلهم دروس النصر والكرامة.
يقال إن الضلوعية, ماضية بكتابة قصة جديدة؛ إن صح القول, فسيعود إقتران دجلة بالفرات كما كان قبل تدخّل يد الطغيان في تفريقهما..!