الى اهلنا المحتجين في العراق، معكم، مع العتب عليكم |
من المؤكد ان لكل مدينة عراقية مساهمة ما في تاريخ العراق بل وحتى تاريخ الامة العربية، واذا تجاوزنا التاريخ القديم للتركيز على تاريخ الدولة العراقية الحديثة وبدايات تاسيسها بحدودها السياسية الحالية. سنخصص الحديث هنا على مدينتي الانبار والموصل، بؤرتا الحركة الاحتجاجية الشعبية التي تفجرت منذ مايقارب الثلاثة اسابيع. ليس انتقاصا من دور المدن الاخرى بل لخصوصيات تميز هاتين المدينتين. للانبار وعشائر الانبار خصوصية في تداخل وتشابك سكان العراق من اعالي الفرات حتى محافظة الناصرية في اسفله. فعشيرة ال فتلة المعروفة والقاطنة بين مدينتي الشامية والديوانية، والتي اشتهرت بمساهماتها في ثورة العشرين، كما اشتهر شيخها عبد الواحد سكر بميوله ونشاطاته القومية في مرحلة ثلاثينات القرن الماضي، واحد اهم رموز ما عرف في حينها ب "جماعة صليخ" وهي كتلة قومية كانت فاعلة في مواجهة التيارات الشعوبية التي ترمي لعزل العراق عن اطاره العربي والدفاع عن عروبة فلسطين، فكانت هذه الكتلة هي التي فرضت على الملك اختيار ياسين الهاشمي لرئاسة وزرارة العراق (ايار 1935- تشرينالاول 1936)، وساهمت في ما عرف بثورة رشيد عالي عام 1941. ولايمكن لمن يؤرخ للحركة القومية العربية في العراق منذ ثورة العشرين وحتى نهاية الخمسينات ان يتجاوز ادوار ونشاطات الشيخ عبد الواحد صكر وعشائر ال فتلة. لو تابعنا اصول العشائر العراقية سيتكشف الانسان ان عشائر ال فتلة ليست الا فخذا من تجمع عشائر دليم في الانبار. ال فتلة عشيرة تلتزم بالمذهب الشيعي مقابل ابناء عمومتهم في محافظة الانبار . نفس الامر بالنسبة لعشيرة الفضول احد تجمع عشائر كبيسة السنية، تنتسب بالاصل لعشيرة ال غزي الشيعية القاطنة في منطقة البطحاء في محافظة ذي قار (الناصرية). كما هي عشيرة ال بو ريشة الشيعية القاطنة في جنوب قضاء الخضر (محافظة المثنى ــ السماوة)، تنتسب لنفس عشيرة ال بو ريشة السنية في محافظة الانبار. ولاشك ان عوائل السادة في راوة والوس ترتبط بوشائج قربى مع ابناء عمومتهم من السادة ال البيت في جنوب العراق. كما ان هناك الكثير من العوائل النجفية تنتسب اصلا لهذه العشيرة او تلك من عشائر دليم او كبيسة. وقد برز منها قائد ثورة النجف ضد الاحتلال البريطاني عام 1918 . والتي كانت مقدمة لثورة العشرين التي الزمت الاحتلال بالموافقة على بناء الدولة العراقية الحديثة. ان هذا الدور الاجتماعي في تماسك لحمة العراق، ليس هو الخاصية الوحيدة للانبار، بل ان موقف كل من الشيخ علوان الشلال رئيس عشائر البومحيي، والشيخ ضاري الزوبعي رئيس عشائر زوبع .الذي واجه ليجمن وهو يريد ان يلعب على اوتار الطائفية، ويحرض عشائر دليم باعتبارهم سنة ضد ثورة العشرين التي وصفها بالشيعية، فرد عليه الشيخ ضاري : ليس في الاسلام سنة او شيعة بل هو دين واحدوعرق واحدوكلمة واحد، واردف مؤكدا: "ان العراق ليس فيه شيعة وسنة بل فيه علماء اعلام نرجع اليهم في امور ديننا" (علي الوردي، لمحات من تاريخ العراق الحديث، ج5، ص:68). هناك خاصية اخرى عقائدية مهمة يتشارك بها كل مسلمي العراق شيعة وسنة، هي ان كلا الطائفتين، تحترم وتقدس ال البيت عموما، اضافة الى ان لكل منهما اوليائه المميزين الذين يترددون عليها لزيارة قبورها، والتبرك بها، والتشفع بها الى الله تعالى. مقابل مرقد الامام الكاظم هناك مرقد الامام ابو حنيفة عبر النهر فقط، وهناك السيد الرفاعي في قضاء الرفاعي في الناصرية، وقبر الشيخ عبد القادر الكيلاني في وسط بغداد، وتعرف الفلوجة بانها مدينة الاولياء لكثرة المقامات والمراقد بها. يتشارك هنا شيعة العراق وسنته بالاتهام بالشرك من وجهة نظر الجماعات السلفية والوهابية المتطرفة. وكل تلك القبور ستتعرض للهدم لو تمكنت الجماعات السلفية المتطرفة من الامر، لذلك لاخوف على سنة العراق او منهم في ان يتاثروا اويستبدلوا مذهب الامام ابو حنيفة باي مذهب اخر من تلك المتطرفة. وهذا صمام امان ايضا يقف حاجزا منيع ضد انتشار التطرف، يبطل اتهام المحتجين بتهم الوهابية او السلفية. انهم مسلمين عراقيين يطالبون بحقوقهم ونبذ اي تمايز طائفي. ومن صالح الطائفتين ان يتم نبذ الطائفية او اعتمادها كمعيار لحيازة الامتيازات التي تقدمها الدولة سواء الوظيفية او الخدمية. وتشريع قانون يحرم الطائفية سيضمن حقوق الطرفين، ويبعد مشاعر الغبن من قبل هذا الطرف او ذاك. ان هذه الحقائق تؤشر الى ان الانبار تختزل بتجمعاتها كل عشائر العراق المقيمة على امتداد نهر الفرات ، بالنسب او بالعلائق الاجتماعية. وتمثل صمام امان لوحدة العراق وتماسكه، لذلك ان من يتهم انتفاضة انفجرت في الانبار لتمتد لكل مدن العراق في شمال بغداد بالطائفية، هو يعكس بحقيقة موقفه توجهات طائفية مشبوهة في اغراضها، ومراميها بل هو يؤدي دورا في خدمة الدول الطامعة والعاملةعلى تقسيم العراق وانهاكه بالصراعات البينية (الغرب واميركا واسرائيل وايران). ان اي نوايا حقيقية لما يسمونه بالمصالحة الوطنية يجب ان تتمركز في الانبار ومن خلالها ، ففيها تلتقي كل عناصر الوحدة الوطنية. يكفي ما قدمته الفلوجة من تضحيات عام 2004 من اجل استقلال العراق وتحريره، سجلا خالدا في تاريخ الثورات والانتفاضات الشعبية المسلحة الفريدة بقوتها وبسالتها، وان تتحول الى المدينة المرجع في الولاء والوطنية. الموصل، اكبر مدن الاحتجاجات الجماهيرية الحالية في العراق ، ليست بحاجة للتعريف بمواقف اهلها في التمسك بالدولة العراقية ووقوفهم بقوة بمواجهة الدعاوى التركية لضم الموصل الى اراضيها بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى، ما اجبر بريطانيا وتركيا ولجنة عصبة الامم المتحدة التي زارتها الى الاقرار بارادة اهل الموصل في التمسك بالدولة العراقية. انعكس هذا الالتزام بتوجهات الكثير من خريجي مدارس الموصل بالانتساب للكلية العسكرية العراقية او بقية المؤسسات والمعاهد العسكرية، تطلعا وتعبيرا عن استعدادهم للدفاع عن الدولة العراقية، واذ لم يكن من نموذج لابطال الموصل الذين قدموا حياتهم للدفاع عن عروبة العراق واستقلاله سوى العقيد البطل صلاح الدين الصباغ قائد ثورة 1941، لكفى اعتزاز وتبجيلا لتلك المواقف البطولية لضباط الموصل الذين قدموا ايضا الكثير من التضحيات والشهداء في مواجهة المد الشعوبي الذي اجتاح العراق في الفترة القاسمية (1958-1963)، ولم لم يكن لاهل المدينة من سجل كتبوه بالدم تاكيدا لتمسكهم بهوية العراق والدفاع عنه، غير شهداء ما عرف بثورة الشواف في اذار 1959، حيث عاثت يد الشعوبية الحاقدة قتلا وسحلا بالشوارع لابناء وبنات المدينة لكفى. مدينتين لو لم يكن الا هما تنتفضان للاحتجاج والثورة ليكفي للقول ان ليس هناك من خوف على وحدة العراق واستقلاله، فهما تاريخيا كانا دائما نموذج للتضحيات من اجل استقلال العراق وصمام امان في الحفاظ على وحدته ووجوده بحدوده الدولية الحالية، اما ان تاخذ جماعات المرتزقة المستفيدين من حكومة الاحتلال هذا الشعار الشاذ او ذاك ممن يريد ان يندس على مظاهرات المحتجين، ليتصيد بالماء العكر من اجل تصعيد الخلافات الطائفية، فلا تستحق كل هذه الضجة المفتعلة لاتهام المحجين بالطائفية، من يدري لو ان المشرفين على هذه المظاهرات حاولوا التحقيق في نوايا هؤلاء المندسين ودوافعهم ومن دفعهم قد يكتشفوا ان ما يسمى بالحكومة تقف ورائهم من اجل ان تعزل حركة الاحتجاج الشعبية وتحصرها في مناطقها خوفا من الامتداد الى مدن الجنوب التي لاتقل معاناتها عما يجري في مدن الاحتجاج، كما حصل في اتهام الاحتلال للمقاومة بالطائفية من اجل عزلها. على ان هناك عتب خاص على اهالي محافظتي الانبار والموصل وبقية مدن الاحتجاج الكرام في ان تتمحور مطاليبهم حول قضايا جزئية لاتمثل حلا نهائيا لازمة العراق، ولم يصعدوا مطاليبهم الى مستوى تصفية كل اثار الاحتلال: 1 ــ الغاء دستور فيلد مان، واقرار دستور بديل يكتب على اساس المصلحة الوطنية العراقية والامن الوطني، وهوية ودور العراق العربي ،كذلك الغاء كافة القوانين والانظمة التي فرضها بريمر، بما فيه قانون المسائلة والعدالة واعتماده كاساس لانتخابات برلمانية ورئاسية نزيهة. 2 ــ محاكمة كل المجرمين وعملاء الاحتلال الذين ساهموا في مساعدة الاحتلال وتقديم العون والدعم له، وتسببوا بكل ما تعرض له العراق من تدمير وقتل. 3 ــ محاكمة من شاركوا في المجازر التي تعرضت لها مدينة الفلوجة البطلة عام 2004، وتقديم التعويضات للمتضررين، وقطع الطريق على الانتهازيين الذين باركوا وهللوا لتلك المجازر او قدموا الغطاء لقوات الاحتلال لتنفيذ تلك المجازر، من يحاول استثمارهذه الحركة الاحتجاجية في صراعاته مع منافسيه من العملاء والخونة. 4 ــ تشكيل لجنة من ضباط الجيش العراقي القدامى لاعادة بناء الجيش العراقي وقوات الشرطة والامن على اساس عقيدة عسكرية ترتكز للمصلحة الوطنية والامن الوطني العراقي، وتسريح وحدات الميليشيات التي ادمجت بالجيش الحالي، واصحاب الرتب التي منحت خارج اطار قانون الخدمة العسكرية العراقية الذي كان سائدا ومُعتمدا قبل الاحتلال عام 2003. ان على اهلنا بجنوب العراق ان يتحركوا لدعم اخوانهم في مدن الاحتجاج شمال بغداد، وان يكونوا بمستوى من الوعي لافشال مخططات التقسيم التي تقودها كتلة عملاء الاحتلال ، ليعبروا عن اخلاصهم ووفائهم لاجدادهم ثوار وابطال ثورة العشرين الذين فرضوا بدمائهم ونضالاتهم على الاحتلال البريطاني ارادتهم لبناء الدولة العراقية. وليطمئنوا اذا قالت الانبار والموصل فصدقوهما ، فخير القول ما تقول به الانبار والموصل. drmalhussaini@gmail.com |