يتداولُ الناسُ مصطلحَ ((الإرهاب)) .. كوصفٍ للعمليات الإجرامية التي ينفذها العدوانيون ضد الأبرياء من أبناء المجتمع . في حين أنه وصفٌ قرآني .. خصَّ اللهُ به المسلمين .. دون غيرهم من البشر . كما أنَّهُ وصفٌ للصالحين من العباد .. لا السيئين .
فالآية الكريمة ...
وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (60) ـ سورة الأنفال
والحالة هذه ؛ فكلمة (( تُرْهِبُونَ )) .. التي وردت في الآية الكريمة المذكورة ، جاءت ضمن سياقات الإعداد المستطاع لمسـتلزمات القوّة التي وجه لها الله سبحانه وتعالى عبادَهُ المؤمنين ، لكي يرهبوا بها من لا يَرضى عنهم الله .. فهي ؛ أي عملية الترهيب تأتي من العباد الصالحين تجاه غيرهم من البشر الظالمين أنفسَهم والعبادَ و الحقَّ الإلهي .
ثم تأتي الآية (61) بما يلي :
وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) ـ الأنفال
كشرط ربّاني يلزم به عبادَهُ الصالحين إزاء المسالمين من البشر .. وإن كانوا على غير الإسلام .
ذكر السيد محمد حسين الطباطبائي في (( الميزان في تفسير القرآن )) ...
قوله تعالى: ﴿وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل﴾ إلى آخر الآية الإعداد تهيئة الشيء للظفر بشيء آخر وإيجاد ما يحتاج إليه الشيء المطلوب في تحققه كإعداد الحطب والوقود للإيقاد وإعداد الإيقاد للطبخ، والقوة كل ما يمكن معه عمل من الأعمال، وهي في الحرب كل ما يتمشى به الحرب والدفاع من أنواع الأسلحة، والرجال المدربين والمعاهد الحربية التي تقوم بمصلحة ذلك كله، والرباط مبالغة في الربط وهو أيسر من العقد يقال: ربطه يربطه ربطا ورابطه يرابطه مرابطة ورباطا فالكل بمعنى غير أن الرباط أبلغ من الربط، والخيل هو الفرس، والإرهاب قريب المعنى من التخويف.
وقوله: ﴿وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل﴾ أمر عام بتهيئة المؤمنين مبلغ استطاعتهم من القوى الحربية ما يحتاجون إليه قبال ما لهم من الأعداء في الوجود أو في الفرض والاعتبار فإن المجتمع الإنساني لا يخلو من التآلف من أفراد أو أقوام مختلفي الطباع ومتضادي الأفكار لا ينعقد بينهم مجتمع على سنة قيمة ينافعهم إلا وهناك مجتمع آخر يضاده في منافعه، ويخالفه في سنته، ولا يعيشان معا برهة من الدهر إلا وينشب بينهما الخلاف ويؤدي ذلك إلى التغلب والقهر.
فالحروب المبيدة والاختلافات الداعية إليها مما لا مناص عنها في المجتمعات الإنسانية والمجتمعات هي هذه المجتمعات، ويدل على ذلك ما نشاهده من تجهز الإنسان في خلقه بقوى
لا يستفاد منها إلا للدفاع كالغضب والشدة في الأبدان، والفكر العامل في القهر والغلبة، فمن الواجب الفطري على المجتمع الإسلامي أن يتجهز دائما بإعداد ما استطاع من قوة ومن رباط الخيل بحسب ما يفترضه من عدو لمجتمعه الصالح.
والذي اختاره الله للمجتمع الإسلامي بما أنزل عليهم من الدين الفطري الذي هو الدين القيم هي الحكومة الإنسانية التي يحفظ فيها حقوق كل فرد من أفراد مجتمعها، ويراعى فيها مصلحة الضعيف والقوي والغني والفقير والحر والعبد والرجل والمرأة والفرد والجماعة والبعض والكل على حد سواء دون الحكومة الفردية الاستبدادية التي لا تسير إلا على ما تهواه نفس الفرد المتولي لها الحاكم في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم بما شاء وأراد، ولا الحكومة الأكثرية التي تطابق أهواء الجمهور من الناس وتبطل منافع آخرين وترضي الأكثرين النصف واحد وتضطهد وتسخط الأقلين النصف - واحد.
ولعل هذا هو السر في قوله تعالى: ﴿وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة﴾ حيث وجه الخطاب إلى الناس بعد ما كان الخطاب في الآيات السابقة موجها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كقوله: ﴿فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم﴾ وقوله: ﴿فانبذ إليهم على سواء﴾ وقوله: ﴿ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا﴾ وكذا في الآيات التالية كقوله: ﴿وإن جنحوا للسلم فاجنح لها﴾ إلى غير ذلك.
وذلك أن الحكومة الإسلامية حكومة إنسانية بمعنى مراعاة حقوق كل فرد وتعظيم إرادة البعض واحترام جانبه أي من كان من غير اختصاص الإرادة المؤثرة بفرد واحد أو بأكثر الأفراد.
فالمنافع التي يهددها عدوهم هي منافع كل فرد فعلى كل فرد أن يقوم بالذب عنها، ويعد ما استطاع من قوة لحفظها من الضيعة، والإعداد وإن كان منه ما لا يقوم بأمره إلا الحكومات بما لها من الاستطاعة القوية والإمكانات البالغة لكن منها ما يقوم بالأفراد بفرديتهم كتعلم العلوم الحربية والتدرب بفنونها فالتكليف تكليف الجميع.
وقوله تعالى: ﴿ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم﴾ في مقام التعليل لقوله: ﴿وأعدوا لهم﴾ أي وأعدوا لهم ذلك لترهبوا وتخوفوا به عدو الله وعدوكم، وفي عدهم عدوا لله ولهم جميعا بيان للواقع وتأكيد في التحريض.
وفي قوله: ﴿وآخرين من دونهم لا تعلمونهم﴾ دلالة على أن المراد بالأولين هم الذين يعرفهم المؤمنون بالعداوة لله ولهم، والمراد بهؤلاء الذين لا يعلمهم المؤمنون - على ما يعطيه إطلاق اللفظ - كل من لا خبرة للمؤمنين بتهديده إياهم بالعداوة من المنافقين الذين هم في كسوة المؤمنين وصورتهم يصلون ويصومون ويحجون ويجاهدون ظاهرا، ومن غير المنافقين من الكفار الذين لم يبتل بهم المؤمنون بعد.
والإرهاب بإعداد القوة، وإن كان في نفسه من الأغراض الصحيحة التي تتفرع عليها فوائد عظيمة ظاهرة غير أنه ليس تمام الغرض المقصود من إعداد القوة، ولذلك أردفه بقوله: ﴿وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون﴾ ليدل على جماع الغرض.
وذلك أن الغرض الحقيقي من إعداد القوى هو التمكن من الدفع مبلغ الاستطاعة، وحفظ المجتمع من العدو الذي يهدده في نفوسه وأعراضه وأمواله، وباللفظ المناسب لغرض الدين
إطفاء نائرة الفساد الذي يبطل كلمة الحق ويهدم بنيان دين الفطرة الذي به يعبد الله في أرضه ويقوم ملاك العدل في عباده.
وهذا أمر ينتفع به كل فرد من أفراد المجتمع الديني فما أنفقه فرد أو جماعة في سبيل الله، وهو الجهاد لإحياء أمره فهو بعينه يرجع إلى نفسه وإن كان في صورة أخرى فإن أنفق في سبيله مالا أو جاها أو أي نعمة من هذا القبيل فهو من الإنفاق في سبيل الضروريات الذي لا يلبث دون أن يرجع إليه نفسه نفعه وما استعقبه من نماء في الدنيا والآخرة، وإن أنفق في سبيله نفسا فهو الشهادة في سبيل الله التي تستتبع حياة باقية خالدة حقة لمثلها فليعمل العاملون لا كما يغر به آحاد الفادين في سبيل المقاصد الدنيوية ببقاء الاسم وخلود الذكر وتمام الفخر فهؤلاء وإن تنبهوا اليوم لهذا التعليم الإسلامي، وأن المجتمع كنفس واحدة تشترك أعضاؤها فيما يعود إليها من نفع وضرر لكنهم خبطوا في مسيرهم واشتبه عليهم الأمر في تشخيص الكمال الإنساني الذي لأجله تندبه الفطرة وتدعوه إلى الاجتماع، وهو التمتع من الحياة الدائمة، فحسبوه الحياة الدنيا الدائرة فضاق عليهم المسلك في أمثال التفدية بالنفس لأجل تمتع الغير بلذائذ المادة.
وبالجملة فإعداد القوة إنما هو لغرض الدفاع عن حقوق المجتمع الإسلامي ومنافعه الحيوية، والتظاهر بالقوة المعدة ينتج إرهاب العدو، وهو أيضا من شعب الدفع ونوع معه، فقوله تعالى: ﴿ترهبون به عدو الله﴾ إلخ يذكر فائدة من فوائد الإعداد الراجعة إلى أفراد المجتمع، وقوله: ﴿وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون﴾ يذكر أن ما أنفقوه في سبيله لا يبطل ولا يفوت بل يرجع إليهم من غير أن يفوت عن ذي حق حقه.
وهذا أعني قوله: ﴿وما تنفقوا من شيء في سبيل الله﴾ إلخ أعم فائدة من مثل قوله: ﴿وما تنفقوا من خير يوف إليكم﴾ البقرة: 272 فإن الخير منصرف إلى المال فلا يشمل النفس بخلاف قوله هاهنا: ﴿وما تنفقوا من شيء﴾.
قوله تعالى: ﴿وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم﴾ في المجمع،: الجنوح الميل، ومنه جناح الطائر لأنه يميل به في أحد شقيه، ولا جناح عليه أي لا ميل إلى مأثم.
والسلم بفتح السين وكسرها الصلح.
وقوله: ﴿وتوكل على الله﴾ من تتمة الأمر بالجنوح فالجميع في معنى أمر واحد، والمعنى: وإن مالوا إلى الصلح والمسالمة فمل إليها وتوكل في ذلك على الله ولا تخف من أن يضطهدك أسباب خفية عنك على غفلة منك وعدم تهيؤ لها فإن الله هو السميع العليم لا يغفله سبب ولا يعجزه مكر بل ينصرك ويكفيك وهذا هو الذي يثبته قوله في الآية التالية ﴿وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله﴾.((انتهى ما ورد في تفسير الميزان))
من هنا يتجلى لنا بوضوح ؛ كيف أن مصطلح ((الإرهاب)) الذي ورد في القرآن الكريم ، لم يرد ملازماً لأعداء الله من البشر ، بل؛ ورد ملازماً لعباد الله الصالحين .. المؤمنين .. المسلمين .
وهو مصطلح إيجابي ضمن التوجيه الإلهي الربّاني لعباده الصالحين ، فعندما يكون توجيه الله لعباده الصالحين بالملازمة الواجبة في متطلبات إعداد القوّة الضاربة المرهبة المخيفة لأعداء الله ، فلا يحقُّ لنا إطلاقاً ؛ أن نوظف هذا المصطلح لغير عباد الله الموجه إليهم خطاب السماء على لسان نبينا الأعظم محمد (ص) .
لعله يصح أن نستعمل مصطلحات أخرى بخصوص هؤلاء الذين نصطلح عليهم ((الإرهابيون))، كأن نستعمل مصطلح ((الإجراميون)) .. فنقول ((العمليات الإجرامية)) بدلاً عن ((العمليات الإرهابية)) .
ورد في قاموس ((لسان العرب))
((وفي الحديث: السلطانُ ظِلُّ الله ورُمْحُه؛ استوعب بهاتين الكلمتين نَوْعَيْ ما على الوالي للرعية: أَحدهما الانتصاف من الظالم والإِعانة، لأَن الظل يُلجأُ إليه من الحرارة والشدّة، ولهذا قال في تمامه يأْوي إِليه كلُّ مظلوم؛ والآخر إِرهاب العدوّ ليرتدع عن قصد الرعية وأَذاهم فيأْمنوا بمكانه من الشر)).
وفي الحديث النبوي الشريف : ((أَعظمُ المسلمين في المسلمين جُرْماً من سأَل عن شيء لم يُجَرَّمْ عليه فَحُرِمَ من أجل مسألته)) .. الجُرْم : الذنب. وقولُه تعالى: حتى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخياط وكذلك نَجْزي المُجْرِمين؛ قال الزجاج: المُجْرِمون ههنا، والله أعلم، الكافرون لأن الذي ذكر من قِصَّتهم التكذيب بآيات الله والاستكبار عنها.
من هنا يتضح أيضاً ؛ إنَّ ((المجرم)) .. مرّة ؛ يكون مسلماً فاعلاً للجريمة ضد أخيه المسلم ، فلا يكون مسلماً ، عندما يكون مجرماً . ومرّة ؛ يكون كافراً فاعلاً للجريمة ضد المؤمنين والمسلمين و عباد الله الصالحين والأبرياء ، فهو ((مجرم)) .
ولأنَّ الجرائم الواقعة اليوم في المجتمع الإنساني آتية من المصدرين الآتين :
ــ المسلمون الظالمون أنفسهم والظالمين المسلمين والإنسانية البريئة .
ــ الكافرون بالله تعالى وبالإنسانية البريئة .
فهما ؛ أي مدعو الإسلام ، والكافرون بالله وبالإنسانية .. هؤلاء ؛ هم المجرمون الذين يخططون ويمولون ويحرِّضون وينفذون العمليات الإجرامية في العالم .. فهم ((المجرمون)) .
ويحقُّ على ضوء ما تقدم ؛ استعمال مصطلح (( الإجراميون )) بدلاً عن (( الإرهابيون )) أينما ورد فعل الجريمة المنظمة وغير المنظمة في المجتمعات الإنسانية كافة . لأن (الإرهاب) يعني (التخويف) ، ولا يشترط أن يقترن بفعل إجرامي ، أما (الجُرْمُ) فيعني (الذنب) ، وهو مقترن بفعل الجريمة ، لهذا يصلح استعماله لمن يقترف الفعل الإجرامي ، ولا يستعمل لمن يخيف أو يرهب دون فعل جريمة تسبب قتل الإنسان البريء مع سبق الإصرار . إذ ليس من المؤكد أن يُحدِثَ التخويفُ موتَ البريء ، وإنما ردعه وتخويفه .. توخياً للحدِّ من أذاه .
ولعله هكذا يكون ؛ عندما يكون موجّهاً ضد بريء مسالم ، فيسبب موته ، نتيجة للخوف النفسي الذي ينعكس عليه بضرر فسيولوجي مميت ، وهو الذي يفترض أن لا يكون من المسلم على المسلم .. ولا يكون من المسلم على من يجنح للسلم من البشر . أما إذا توجه للظالمين والمجرمين ، فما الضير في أن يَحدِثَ عن هذا النوع أثران : إما الردع ، أو الأذى النفسي ، ولا تذنيب في موت الظالمين نتيجة للتخويف والإرهاب ، لكونهم ظالمين ، فهو ليس (إجرام) ، لأنَّ الإجرام مقترن بالذنب ، ولا ذنب على مبير الظالمين . والله من وراء القصد ؛؛؛